يبدو أن البعض لا يريد لنا أن نخطو إلى خارج دائرة الاستقطاب حول مرشح النظام " أحمد شفيق " : إما هو أو الدولة الدينية ؟ .وهو قريب الشبه بالسؤال الذي ظل "مبارك" يقتلنا به وينهبنا و يعذبنا ويستبد بنا وهو يردد لثلاثين عاما : إما أنا أو الإخوان و الإسلاميين ؟ . يوما ما لم أضع نفسي تحت طائلة هذا الابتزاز الرخيص لنظام فاسد مستبد ، والذي يعد استمراره الأب الشرعي لكل تطرف ، بما في ذلك التطرف الديني . والآن عندما يبتزنا أنصار "شفيق" في الصحافة القومية بالصياح الكاذب محذرين من " هيمنة الإخوان " و مدافعين عن استمرار الفساد والاستبداد والقمع المهني و انتهاك حرية التعبير في الصحافة القومية لا أجد ألا أن أواجه حملة تضليلهم هذه بأن أعرض جانبا من ملاحظاتي على تقرير مجلس الشورى المبدئي والنهائي المعنون ب" معايير وضوابط اختيار رؤساء تحرير الصحف القومية لدورة جديدة و استيضاح كافة الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية لهذه المؤسسات بما يكفل استقلاليتها ". و أبدأ بالإشارة إلى أن التقرير وما انتهى إليه من توصيات يتجاوز مسألة اختيار قيادات هذه الصحف إلى ما تعانيه من فساد وسوء إدارة استمرا منذ عقود . كما أن حديث التقرير عن تغيير القيادات لا يشمل رؤساء مجالس الإدارة ويقتصر على رؤساء التحرير لاعتبارات تتعلق بالمنهج الإصلاحي المحافظ لمجلس الشورى. وقد آثر المجلس أن يقتصر التغيير على رؤساء التحرير الذين انتهت دورة تعيينهم ( 3 سنوات ) في 17 مارس 2012 . وعلى هذا النحو فإن المسكوت عنه في معركة اختيار القيادات الصحفية يتجاوز بكثير مسألة القيادات وطبيعة هذه القيادات ( رؤساء مجالس إدارة وتحرير ) . و على الجانب الأخير فإن تغيير رؤساء التحرير دون رؤساء مجالس الإدارة من شأنه أن يولد مشكلات وعراقيل أمام القيادات التحريرية الجديدة ،والتي ستجد نفسها حتما أمام عراقيل قد يضعها رؤساء مجالس إدارة موروثون من نظام "مبارك" و امتداده ممثلا في المجلس العسكري. لكن لننظر أولا فيما هو مسكوت عنه بشأن الفساد وسوء الإدارة وإهدار المال العام في المؤسسات الصحفية القومية : فهل تعلم أن تقرير مجلس الشورى تضمن عبارات قوية كاشفة وغير مسبوقة في تاريخ هذا المجلس أو أية مؤسسة بالدولة عن أن " الصحفيين الشرفاء كانوا دوما يعانون داخل مؤسساتهم ويتم إبعادهم عن الكتابة و عن مواقع صنع القرار " و أن " السلطة الحاكمة فرضت خصوصا في العقود الأخيرة على هذه المؤسسات شخصيات فاسدة تدور مع الفساد حيث دار وتزين للحاكم كل صنوف الطغيان وتقف حجر عثرة أمام مسيرة التطور الديمقراطي . وقد ساهمت بجهلها وتبعيتها المهينة للسلطة الحاكمة في ثورة الشعب ضد نظام مبارك كما ساهمت في تخريب المؤسسات الصحفية وتحميلها بالديون الباهظة". و أضاف أن " النظام المخلوع أطلق أيدي رؤساء مجالس الإدارة والتحرير في تلك المؤسسات فحولوها إلى ملكية خاصة يديرونها كيفما يشاءون دون رقيب أو حسيب حتى أن ميزانيات تلك المؤسسات لم يكن يعلم عنها أحد " و أكد أن " التعيينات والترقيات في هذه المؤسسات تتم بدون قواعد ومعايير واضحة باستثناء الولاء للنظام الحاكم والتزلف لرؤساء مجالس الإدارة والتحرير . وبناء على هذا الوضع يتم إبعاد الكثير من الكفاءات المهنية التي هجر بعضها هذه المؤسسات الصحفية الصحف الخاصة أو الخارج". وهل تعلم أن التقرير في صورتيه المبدئية والنهائية دعا إلى فتح ملفات الفساد المتراكمة في الصحافة القومية. وعليه تقدم مجلس الشورى بالمزيد من البلاغات الموثقة بتقارير الجهاز المركزي إلى النائب العام ، و جميعها يمس ما اسميه رموز وبارونات "الإقطاع الصحفي السياسي" في عهد مبارك ممن يتصدرون حاليا مشهد الاحتجاج على تغيير أسلوب اختيار رؤساء التحرير . وهل تعلم أن التقرير فتح ملف عمل الصحفيين بالإعلانات وتكسب القيادات الصحفية بغير وجه حق مئات الملايين من الجنيهات نظير استقطاعات غير قانونية من هذه الإعلانات الصحفية . وهل تعلم إن أيا من القيادات الصحفية وفي كافة المؤسسات رفضت الاستجابة إلى طلب مجلس الشورى إمدادها بقوائم للصحفيين العاملين بالإعلانات والمتربحين منها . وهل تعلم أن التقرير انتهى إلى ضرورة تعديل نصوص قانون الصحافة لتفعيل تجريم عمل الصحفيين بالإعلانات ، وذلك بفرض عقوبات على هذه المخالفة القانونية والمهنية والأخلاقية . وهل تعلم أن التقرير انتهى إلى خسائر وديون متراكمة لهذه المؤسسات بمليارات الجنيهات ودون محاسبة أو مساءلة للمتسببين فيها على مدى عقود وحتى الآن. وهل تعلم أن التقرير كشف عن تدهور بالغ في توزيع هذه الصحافة و أن مرتجعات بعض إصدارتها يتجاوز 95 في المائة استنادا إلى معلومات طلبها مجلس الشورى من المؤسسات عن أرقام التوزيع ،وأن مؤسسة الأهرام امتنعت عن تقديم بيانات التوزيع . وهل تعلم أن توصيات التقرير بوضع ممثلين من أعضاء مجلس الشورى في مجالس إدارات والجمعيات العمومية للمؤسسات الصحفية القومية يرفعون تقاريرا دورية عن أحوال المؤسسات بمثابة تفعيل لممارسة مجلس الشورى حقوق الملكية عليها بوصفه ممثلا للشعب و توجها لمغادرة مربع " المالك الغائب والشبح " ، وإن كان من الضروري في رأينا ألا يتقاضي أعضاء الشورى في هذه الهيئات أية مبالغ نقدية بدلا عن حضور الجلسات أو مزايا عينية ضمانا لعدم شراء الذمم وان ينص كذلك على أن عضوية هذه الهيئات جميعا بالتعيين أو الانتخاب عمل لا يجب تقاضي أية أموال أو مزايا عنه . هل تعلم إن من بين ما انتهى إليه التقرير توصية هامة بإلزام المؤسسات بوضع هيكل تنظيمي و جداول لتوصيف الوظائف والمرتبات و الالتزام بحدين أعلى وادني لدخول العاملين . هل تعلم بان التقرير النهائي تراجع خطوات عما ذهب إليه التقرير المبدئي تحت الضغوط والحملات التي شنتها الثورة المضادة . وعلى سبيل المثال فقد سقطت توصيات مهمة منها ما يتعلق ب "رد المبالغ المالية المتحصلة بغير وجه حق من الإعلانات لصالح القيادات الصحفية السابقة والحالية " ، و " إنشاء جهاز يتمتع بالاستقلالية والحرفية ويتبع مجلس الشورى لمتابعة أرقام توزيع الإصدارات الموثوقة ليتمكن من تقييم ومحاسبة القيادات الصحفية وفق معايير النجاح في التوزيع والقبول لدى القراء " وبحسبان معرفة أرقام التوزيع الصحيحة حقا للقارئ والمعلن والصحفي . وبشأن آلية اختيار رؤساء التحرير سقط من التقرير النهائي ضمانة عرض قائمة بأسماء المرشحين في كل مؤسسة وفتح الباب للطعون و النظر في جديتها. وهل تعلم أن التقرير في صيغتيه المبدئية والنهائية تضمن موقفا متحفظا من خصخصة المؤسسات الصحفية القومية ، و الأهم موقفا صريحا ب " ألا تكون الصحف القومية بأي حال لسان حال الحاكم أو الحزب الذي يقوده أو ينتمي إليه وأن تصبح منبرا حرا لكل أبناء الشعب بكل فئاته و أطيافه " . لكن بدلا من أن يجرى استغلال مساحات النشر في الصحافة وبرامج " التوك شو " في الضغط والحوار لوضع ضمانات هذه الاستقلالية جرى استغلال كل شيء لخوض معركة التغطية على الفساد الكبير الممتد ومن أجل استمرار القيادات المختارة بواسطة الحاكم الفرد وأسرته وأجهزة الأمن في مواقعها القيادية . ثمة الكثير من المسكوت عنه في تغطية الصحافة والإعلام لتقرير "مجلس الشورى" وخطوته المهمة بفتح باب الترشح لمناصب رؤساء تحرير الصحف القومية . وثمة العديد من الملاحظات حول تشكيل اللجنة المعنية بفحص طلبات الترشيح و حول بعض معايير الاختيار وطريقة صياغتها. وثمة العديد من المقترحات المهمة التي كان يمكن لمجلس الشورى الأخذ بها كإنشاء لجنة تحقيق مستقلة برئاسة أحد قضاة الاستقلال لوضع تقرير تقصى حقائق أمام الرأي العام عن الفساد في المؤسسات الصحفية القومية في عهدي السادات / مبارك والى الآن . لكن بدلا من الانشغال بكل مهم ومفيد لمستقبل هذه الصحف وجدنا أنفسنا مختطفين في معركة تعلو فيها أصوات رجال " مبارك / شفيق " دفاعا عن استمرار كل فساد وكل قيادة جرى اختيارها في الظلام وبسرية وبواسطة أجهزة الأمن ومبارك وأسرته ورجاله وورثته في المجلس العسكري . أقول هذا وأنا مدرك تماما لأن أي خطوة يقدم عليها مجلس الشورى تأتي في إطار مرحلة انتقالية تتلو ثورة 25 يناير وان إعادة صياغة وهيكلة المؤسسات الصحفية القومية وعلاقتها بالدولة و مصير مجلس الشورى في انتظار وضع الدستور الجديد ورؤية أكثر جذرية . لكن علينا أن نعلم . Comment *