لم يكن يدُر في خلدي أن يضرب التمزّق بأطنابه في مصرنا المحروسة؛ فشباب الثورة تنازعوا أمرهم فيما بينهم، والقوى الإسلامية تحزّبت كلّ في خندقه يكيد للآخر، وبقي الشعب حائراً لا يرى موضع خطوته المقبلة، وفلول النظام السابق -وليس البائد؛ لأنه قد يعود مرةً أخرى بعد انقطاع دام سنةً وبضعة أشهر فقط- ينتظرون الفرصة السانحة ليجتمعوا على قلب رجل واحد في ميدانهم المعنويّ البديل لميدان التحرير؛ ميدان (من أجلك أنت) الذي رفعه الحزب الوطني السابق شعاراً له في آخر أيامه، في إعادة واضحة لتقزّم مصر في شخص واحد يحرّكها كما يشاء كما يبدو من أسلوب عمرو موسى وأحمد شفيق. أصبح لدى المشروع الإسلامي ثلاثة أجنحة، أو ثلاثة مرشّحين: أوّلهم، وهو الأسبق إلى إعلان رأيه حتى عن جماعته، هو عبد المنعم أبو الفتوح، الذي يحظى بتوافق كبير بين كثير من القوى السياسية أفراداً وجماعات، وهو توافق لا نجد له نظيراً لدى المرشحين الاثني عشر الآخرين إلا لدى حمدين صباحي على استحياء. وثاني المرشحين الذين يحملون همّ المشروع الإسلامي هو محمد سليم العوا، الذي يعدّ مفكراً أكثر منه إدارياً محنّكاً، حتى إنه أخذ يتكلّم بفكر أرقى من عقلية رجل الشارع العادي، فحملت مواقفه للبسطاء من عامة الشعب تناقضاً أدّى به إلى البعد النسبي عن المنصب. وثالث المرشّحين الإسلاميين هو محمد مرسي، وهو مرشح مؤسّسي تقف خلفه جماعة الإخوان المسلمين في وضع يصلح معه أن تستبدل به آخر، كما جاء هو بديلاً لخيرت الشاطر؛ أي أنك ستنتخب جماعة الإخوان ولن تنتخب محمد مرسي نفسه. وقع أفراد الشعب المصري من ذوي المرجعية الإسلامية -وهم عامة الشعب حسب الاستفتاء الدستوري وانتخابات البرلمان بشقيه- في حيرة لمن يعطون أصواتهم؛ مما سيؤدي إلى تشتيت الصوت الإسلامي، وهو أمر يصبّ بلا شك في مصلحة مرشَّحَي الفلول: عمرو موسى، وأحمد شفيق. وتتزايد المشكلة إذا علمنا أن أداء الإخوان المسلمين، التي لم تفصل بين شقَّيْها الدعوي والسياسي بعدُ، وسعيها إلى جمع كلّ المناصب في يدها، دفعا بعض المصريين في الخارج -عن وعي أو غير وعي- إلى ارتكاب جناية كبيرة في حقّ الثورة المصرية، وهي التصويت العقابي لعمرو موسى نكايةً في الإخوان المسلمين، وهو ما نخشى أن يمتد أثره إلى انتخابات الداخل. كلّ هذه الظروف والملابسات كانت تحتّم على أصحاب المشروع الإسلامي التمترس خلف مرشّح إسلامي واحد يضمن للثورة نجاحها، ويضمن حسم المعركة من جولتها الأولى؛ خوفاً من أن يستيقظ الجميع فيجدوا موسى أو شفيق يحتفل مع أنصاره بعودة النظام السابق، وعندها لن يغفر الشعب المصري لقواه الإسلامية هذا التمزّق؛ لأنه لا عزاء وقتها للمخلصين. لكن يبقى السؤال الأهم: من هو الأَوْلى بالتوافق: عبد المنعم أبو الفتوح أم محمد مرسي؟ تكمن الإجابة الواضحة، التي يدركها أيّ سياسي أو حتى عاقل، في أنه لا يصحّ في دولة تبدأ خطواتها الأولى نحو الديمقراطية الحقيقية أن يستأثر فصيل سياسي واحد بكل أزمّة القيادة فيها. واتّكاء الإخوان المسلمين على نموذج تركيا الآن لا يجوز؛ لأن سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة فيها لم يأتِ دفعةً واحدةً، وإنما جاء على مراحل، كما أنه جاء صدًى لما أفرزه الواقع؛ فأردوغان لم يصل إلى رئاسة الوزراء إلا بعد أن أبلى بلاءً حسناً في بلدية إستانبول، وكذلك لم يحُزْ الحزب مناصبه تلك إلا بعد نجاحه في المناصب القليلة التي امتلكها عند بدايته. كما يفهم المواطن العادي أن الكبير يتحمّل الصغير ويتنازل له، والقويّ هو الذي يملك تقديم تنازلات وليس الصغير؛ لذا كنت أتمنى أن يتنازل الإخوان لعبد المنعم أبو الفتوح، ويكتفوا بالحكومة والبرلمان؛ حتى لا تتفرّق أصوات الداعمين للمشروع الإسلامي، خصوصاً أن أبو الفتوح يحظى بتوافق كبير بين كثير من التيارات السياسية والإسلامية؛ مما يعني أنه مؤهّل لأن يكون مرشحاً توافقياً تلتئم على عتبات بابه كلّ أطياف البيت المصري الكبير. كما أن توافق جماعة الإخوان المسلمين على أبو الفتوح سيخرجها من خندق الدفاع المستميت عن فكرة تطلّعها إلى السيطرة على كلّ مقاليد الحكم، حتى وإن أدخلها ذلك إلى شبهة التواطؤ مع أبو الفتوح عبر تمثيلية يعلم القاصي والداني أنها ليست حقيقية بعد هذا الشوط الكبير نحو الوصول إلى مقعد الرئاسة، خصوصاً أن أبو الفتوح كان أسبقهم إلى الترشّح بعد أن استقال منهم أو أقالوه، وكان أبعد منهم نظراً، وأكثر وعياً لما هو مقبل من أيام، فتركهم يتشبّثون بلحظتهم، غير قادرين على التطلّع إلى غدهم. ومن خبُر الإخوان، وتعاملهم مع مَن انفصل عنهم، وما أصاب قواعدهم الشبابية من اهتزاز وتصدّع بعد أزمة أبو الفتوح، يدرك أن فكرة التواطؤ أمر مستبعد تماماً. مجرّد وقفة: يزعجني كثيراً الترويج للدكتور محمد مرسي بأنه يحفظ القرآن الكريم كاملاً؛ فهذه مأثرة ليست في موضعها؛ فعندما سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن القائد القويّ الفاجر في مقابل التقيّ الضعيف أجاب بأن الأول قوّته للمسلمين وفجوره على نفسه، والثاني ضعفه على المسلمين وتقواه لنفسه. Comment *