منذ انقلاب 1952 العسكري الصميم، وهو ما أطلق عليه فيما بعد، مدبروه (ومن تبعهم بتضليل إلى يوم الدين) بثورة يوليو، وأحد أهم ركائز هذا الحكم العسكري (إن لم يكن أهمها على الإطلاق)، بجانب سيطرته علي الجيش ممثلاً العضلات وعلى الإعلام ممثلاً الوعي، هو سلاح المحاكمات العسكرية والسجون الحربية للمدنيين. ذلك السلاح المشهر في وجه الشعب المصري بالأمر المباشر والذي يحرك عن بعد، يد عبد المأمور من إخواننا المماثلين "لأحمد سبع الليل". إنها عملية انتحار مجتمعي مصدرها ليس المجتمع نفسه، ولكن ما مرض به من حكم الفراعنة المعسكرين، فتسلط هؤلاء المغتصبون وأبدعوا في اختلاق الطوارئ من حروب وإرهاب ليحكموا مصر لعقود بصلاحيات استثنائية (وهو الأسلوب الوحيد الذي يجيده العسكر في إدارة الأمور)، فجعلوا أنفسهم فوق العدالة والقانون (للضرورة!)، فسولت لهم أنفسهم أن يأمروا "سبع الليل" أن يطعن بيده الشريفة بهذا الخنجر المسموم بدنه ووعيه المصري البريء. هذه الوسيلة المفسدة في إدارة الأمور لم تعرف لها مصر مثيلاً منذ أن تخلص محمد علي (رحمه الله) من المماليك في مذبحته الشهيرة، ولم يُستدعى هذا الأسلوب إلا على يد الإنجليز حين أعلنوا الحماية البريطانية على مصر والأحكام العرفية. والتي أزعم أن نسختها المستحدثة لفظياً هو الوصاية العسكرية على مصر وقانون الطوارئ. وبالمقارنة بالأمراض المكروبية الاستعمارية السابقة (التي تتأثر بالمضادات الحيوية والمبيدات) من حكم مماليك وإنجليز، فهذا المرض مستوطن ومتلون ولذلك يخشى العديد من المواطنين من ظهوره بالشكل المتأسلم (بعد أن كشفت ثورة 25 يناير عن مدى تشوه التيار الإسلامي المصري الأصلي). هذه العلة المعدية سريعة الانتشار في جميع الأعضاء والتي توظف صغار نفوس هذا الوطن، في المتاجرة (لصوصاً) بقوت أبناء بجدتهم ومستقبل أبناءهم. وهو مرض سرطاني خبيث، لأن الأجسام المضادة للجسم ليست دخيلة عليه ولكنها من نفس النسيج، فتعتقد الأجسام الدفاعية المصرية من نشطاء وحقوقيين أنهم دائما مخترقون، فيتملك الشك منهم فيما بينهم، فتبدأ المعركة الداخلية ويتآكل الجسد وهو يلتهم بعضه بعضاً والعياذ بالله. وبهذا تعتبر مصر حصلت على استقلالها، ترجو فيه الشفاء مرة أخرى، لتفاجئ بأن علة جديدة داخلية، كاللغم المدفون، تتملك منها فلا تمنحها حريتها وكرامتها برغم الاستقلال، وتنقلها من استغلال الاحتلال إلى تبعية الاستغلال نفسه! بل وتدفعها إلى حافة الهاوية، فتثبت نظرية إدعاء "فشل المصريين في إدارة أنفسهم"، فتُعطي الذريعة للتدخل "الكيميائي" الأجنبي، علماً وإدارة، فتزداد رقعة تآكل الهوية المصرية ويستمر الجسد والروح في المعاناة.. ويا لهم من أفاعي يهود هؤلاء الإنجليز المدبرين لتلك المكيدة منذ عقود، ومن ورث عرشهم من الدول الاستعمارية إلى يوم الدين.. أيضاً! لقد حقنت وصاية الحكم العسكري، مراراً الوعي المصري (من بعد جلاء الإنجليز!) بمفردات مثل "زوار الفجر" و"وراء الشمس"، فسممت تلك الألفاظ البذيئة الوجدان المصري، فتآكلت روح الانتماء والملكية الوطنية في ضمائر المصريين، وتم وأد المسؤولية الوطنية خوفاً من ذلك البطش الأعمى الذي لا يسلم منه ولا حتى "بتوع الأتوبيس". كما ساهمت تلك الآفة الاجتماعية وبالتالي السياسية والاقتصادية، في بزوغ نجم المنافقين والفاسدين في كل المجالات، وبمرور الوقت أتمت تشويه التيارات السياسية كافة وبلا استثناء إلا من رحم ربي من قلة معارضين، فرسان شرفاء، ممن حباهم الله بنعمة المناعة الفطرية العالية ضد هذا المرض، لكنهم دفعوا, مقابل إيمانهم وتصديهم مضحين، أثماناً باهظة من العزلة والإرهاب والتصفية المعنوية، والجسدية أحياناً (إذا لزم الأمر). وفي كل الأحوال كانت المحاكمات العسكرية والاستثنائية والمعتقلات الحربية "الخمس نجوم" هو السلاح الأكثر فتكاً بالشرفاء والأقل تكلفة من حيث فاتورة الدماء. والتي مكنت سيادة "الباشا" النظام من الاستمرار في احتلال المطعم وطلب "أوردرات" أكثر لأن رصيده من الدماء في الوجدان المصري المضلل إعلامياً ما زال يسمح. سيعلق أحد القارئين بأن ما أعرضه له لم يعد إلا ماضياً منذ تاريخ "تنحي" مبارك. وسأرد عليه بالتالي: المدقق في الأحداث على مدار تلك الفترة منذ "تخلي" مبارك وإلى الآن، سيرى بوضوح كل ما سعى إليه النظام الحاكم من إشاعة وترويج الفوضى، ليبتدع لنفسه الذريعة لإطلاق العنان للمحاكمات العسكرية، وهي صمام أمان سيطرته على الأمور. فقد سعى إلى ذلك تحديداً منذ الاختفاء المفاجئ للشرطة يوم 28 يناير والذي صدر به أمر "مسكوت عنه"، بانقطاع اتصال القيادة بالضباط المتواجدين في مواقعهم بسبب تلك الحالة الطارئة، وذلك التصرف في حد ذاته، يعتبر أمر ضمني بالانسحاب الشامل والمتزامن بدقة مع خروج المساجين. ومن القرائن توفر مقاطع مصورة على شبكة المعلومات، لإشراف الشرطة على عملية تهريب المساجين، والملابسات الغامضة (المعتم عليها) لمقتل اللواء البطران. بل والدليل القاطع هو إستمرار تألق الإنفلات الأمني إعلامياً، في صورة تركيز إعلامي من زاوية محددة لأعمال بلطجة مبالغ فيها، وعنف منتشر غير مبرر، وإنفجارات وحرائق، ونلاحظ تكرار ذلك بمعدلات متزايدة مرتبطة (في تناسب طردي) مع حجم ضغوط القوى الثورية لإستخلاص الحق المغتصب، في صورة المظاهرات والإعتصامات، والتي يندفع إلى بعضها أحياناً دون تعقل البعض منا الأشد ثورة وجرحاً، ممن أفقدهم مذاق الظلم صوابهم ويأسوا من وجود العدالة، فيجدونها ما هي إلا فخوخ منصوبة من النظام بعناية! ينهش فيها البلطجية "السياسيين" (من هذه السلالة المعسكرة من الخارجين عن القانون) لحم المذبوحين روحياً، وخلال الإشتباك يسقط الضحايا ويحدث الهرج والمرج، فتنطلق السلطة العسكرية بشهية الجائع المنتظر، تلتهم بإعتقالاتها ومحاكماتها العسكرية من تطاله ممن تجمهر حول من سقط من الشهداء المتصدين للبلطجية في الصفوف الأولى. بالرغم من ذلك، إختفت معالم تلك البلطجة "السياسية" أثناء إنتخابات مجلس الشعب رغم تضخم الإحتجاجات بعد أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء آنذاك وإستمرارها! فيا لهؤلاء المجرمون من قدوة لبلطجية العالم في التضحية والفداء والوطنية!! ومن الدلائل التي نعايشها حتى الآن أن المحاكمين عسكرياً، هؤلاء المعذبين وراء الشمس، غالبيتهم العظمى ليسوا من أرباب السوابق. وبما أن أعدادهم هائلة (تتعدى العشرة ألاف) وتم التشهير إعلامياً بأنهم "المجرمون" مثيري الفوضى، فلو كانوا كذلك فعلاً، لتم ردع الطلقاء منهم منذ زمن، ولما وصلت بهم الجرأة لمدى مهاجمة مواطنين (أياً كان توجهم السياسي) أمام مرأى ومسمع القوات المسلحة المنوطة بحمايتهم، وأمام "عرينها" كما حدث مؤخراً، وعلى مر أيام، في محيط وزارة الدفاع. أو على الأقل لما إستمر بعض نجوم هؤلاء الخارجين عن القانون طلقاء حتى بعد فضح صورهم وتداولها على شبكة المعلومات متلبسين. ويتكرر المشهد بنفس الترتيب: تراكم إستفزازات من الحاكم العسكري ومن هم في صفه، مما يؤدي إلى إحتقان، فيؤدي بدوره إلى فوران وتظاهر الذين هم أقرب إلى مراكز الألم، صارخين معبرين عن أنينهم بعشوائية (مشروعة في هذا الإطار)، وبأسلوب تلقائي إنفعالي إنساني غير مخطط (متناقص في الحجة لفقدان العقلانية من فرط الظلم وتكرار المهانة والتأكد من غياب العدل والمساواة)، فتتمكن السلطات من تصفية القيادات وما تيسر لهم من الجبهة الميدانية الفعالة للثورة، وحصد من حولهم، وعزلهم وتقديمهم للمحاكمات العسكرية تمهيداً لحفظهم في "ثلاجة الموت البطيء" بالسجون الحربية. إنها عملية غربلة مستمرة فرضتها على الأجهزة الأمنية، ضرورة "عدم وجود قيادة مركزية للثورة"، تمكنهم من إجهاضها فوراً. فراحوا يسعون بهذه الطريقة الماكرة إلى تفريغ تدريجي لوقود الثورة، ألا وهم أبناءها المخلصون في الصفوف الأولى (حتى وإن كانوا مغرر بهم أوأساؤا إدارة الأمور للإحساس باليأس من العدالة). وبهذا أيضاً يتم ضرب الثورة إعلامياً، بنشر أكذوبة أن الثوار الحقيقيون إنسحبوا بعدما إقتنعوا أن "الحياة بقى لونها بمبي"، وأن من يخرجون إلى تلك المظاهرات الآن، ما هم إلا "قلة مندسة" متآمرة على الوطن ومقدرات الثورة وأحلامها الوردية... ونقطة زمن أول السطر. ومن هنا نستنبط أن دعم كل الحركات المناهضة لمحاكمة المدنيين عسكرياً، هو واجب وطني قبل أن يكون مجرد إنساني أوحقوقي، وقد يرقى إلى درجة الجهاد. وأنه السبيل السلمي الأمثل للقضاء على هذا الإرهاب الممنهج، والذي يطلق العنان للإنفلات الأمني والبلطجة، لتبرير إستمرار تلك المهمة في فرز الثوار، وتفريغ الطاقة الثورية. إن التوحد على الرفض القاطع الفوري لتلك الممارسات، مهما كانت المبررات، في الواقع وبمنتهى الموضوعية، هو أول خطوة على طريق الإستقرار المنشود، وذلك نتيجة "إنعدام" الغرض الأساسي المرجو للنظام من إستمرار تلك الممارسات، في حال الإجماع على هذا الهدف وتحقيقه، وفضح ما بُني على أساسه من مبررات واهية. إن إطلاق سراح إخواننا في ذلك الأسر، وحماية من مقدر له اللحاق بهم، هو نقطة التحول الرئيسية في تكبيل أيدي "السلطة" الغاشمة والتخلص من ذلك الإرهاب الأمني والعبور بالثورة المصرية إلى بر الأمان. أفرجوا عن مصر! أوقفوا المحاكمات العسكرية للمدنيين فوراً! Comment *