يبدو أن الأنظمة العربية باتت تُدخل شعوبها في متاهة التطبيع؛ لجس نبضهم حيال تقارب هذه الأنظمة مع العدو الإسرائيلي، أو تحاول التعتيم على عقول هذه الشعوب؛ لتتقبل تدريجيًّا فكرة أن الكيان الصهيوني بات بين ليلة وضحاها صديقًا، ولم يعد عدوًّا، ولم تعد يداه ملطخة بدماء الفلسطينيين والمصريين والسوريين واللبنانيين وغيرهم من العرب. مظاهر هذه المتاهة جاءت هذه المرة من السعودية، ففي الوقت الذي أكدت فيه تقارير صهيونية وهندية أن الرياض سمحت لطائرات هندية بعبور أجواء السعودية لتل أبيب، نفت الهيئة العامة للطيران المدني في المملكة في 7 فبراير الماضي تقارير إعلامية إسرائيلية بأنها منحت "إير إنديا" إذنًا لهذا المسار، ولم تمضِ أسابيع حتى ثبت زيف التصريحات السعودية، حيث فتحت السعودية مجالها الجوي للمرة الأولى أمام رحلة تجارية متجهة إلى إسرائيل، يوم الخميس الماضي، مع تدشين مسار لشركة الطيران الهندية "إير إنديا" بين نيودلهي ومطار "بن غوريون" في تل أبيب. التمثيلية السعودية الإسرائيلية لم تنتهِ عند هذا الحد، فعلى الرغم من أن السعودية كسرت العديد من الخطوط الحمراء مع العدو الإسرائيلي، حيث أنهت رحلة الطيران الهندية حظرًا استمر 70 عامًا على عبور الطائرات المتجهة إلى إسرائيل أو القادمة منها، وهي الخطوة التي تعد مؤشرًا خطيرًا لذوبان الجليد في العلاقات بين تل أبيب والرياض، إلا أن تل أبيب تظاهرت بالاستياء، حيث قالت شبكة "سي إن إن" الأمريكية إن هذه الخطوة أغضبت شركة طيران العال الإسرائيلية، التي يتوجب عليها التحليق حول شبه الجزيرة العربية إلى الهند في رحلة تستغرق ثماني ساعات، مقارنة بالرحلة التي ستستغرق سبع ساعات لنظيرتها الهندية باستخدام أجواء المملكة، الأمر الذي دفع شركة العال الإسرائيلية لبعث رسالة إلى منظمة الطيران الدولية، تنتقد فيها ما وصفته ب"التمييز" الذي مارسته السلطات في السعودية، قائلة: "إن الطيران الهندي سيحظى بامتياز كبير وغير عادل فيما يتعلق بالرحلات بين إسرائيل والهند"، وتحججت إسرائيل بأن الإذن بالتحليق السعودية لشركة الطيران الهندية سيجعلها تتخذ مسارًا أقصر بين دلهي وتل أبيب، قد يستغرق 7 ساعات، مقارنة بثماني ساعات للطيران الإسرائيلي. وطالب الرئيس التنفيذي لشركة الطيران الإسرائيلية، جونين أوسيشكين من منظمة الطيران المدني، بالمساعدة في "الحصول على أذن مساوٍ، والسماح باستخدام شركة العال للأجواء السعودية. وهنا تحاول تل أبيب تشتيت الانتباه بتصدير مشكلة التمييز في وقت الرحلة، للتعمية على الكارثة السعودية التي وضعت اللبنة الأولى لتطبيع علاقتها مع إسرائيل بشكل علني عبر الأجواء، فبالأمس علق رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على مرور أول رحلة جوية قادمة إلى بلاده، عبر أجواء السعودية "إن انطلاق رحلات طيران شركة إير إنديا المباشرة إلى إسرائيل عبر المملكة العربية السعودية يخلق إمكانيات ضخمة لإسرائيل ذات آثار كبيرة وطويلة الأمد"، وتابع "الأهمية واضحة للجميع"، مضيفًا أن "هذه التداعيات الهامة لها آثار اقتصادية ودبلوماسية، فضلاً عن تأثير متعلق بالسياحة والتكنولوجيا"، كما وصف هذه الخطوة بال"تاريخية". وفي الوقت الراهن وحدها شركة الطيران "العال"ما تقوم بتشغيل رحلات جوية بين البلدين، فالهند تعد وجهة سياحية شهيرة، خاصة بالنسبة لجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي. نفي الرياض السماح للهند باستخدام أجوائها نحو تل أبيب والتأكد فيما بعد من صحة الخبر يعيدان للأذهان نفيها لما تم تداوله العام الماضي في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي عن هبوط طائرة تحمل شعار الخطوط الجوية السعودية في مطار بن غوريون. الجدير بالذكر أن تناغمًا في المحاولات لتفعيل الأجواء السعودية لخدمة المصالح الإسرائيلية في المنطقة بدأ الحديث عنه قبل عام، والذريعة كانت من خلال الحجاج الفلسطينيين، حيث كشف وزير الاتصالات الصهيوني، أيوب قرا، أن تل أبيب تسعى لإقناع المملكة العربية السعودية بالسماح بتسيير رحلات جوية من مطار بن غوريون الإسرائيلي نحو أراضي المملكة؛ لنقل الحجاج المسلمين الحاصلين على الجنسية الإسرائيلية، حينها ذكرت وكالة بلومبيرغ نقلاً عن قرا أنه قال إن "الواقع قد تغير"، وإن "الوقت الحالي مناسب لتقديم طلب كهذا"، مشيرًا في السياق ذاته إلى أنه "يعمل جاهدًا من أجل ذلك". ويرى مراقبون أن مسرحية الأجواء بين السعودية وإسرائيل تمهد إلى ما هو أخطر، خاصة أن تحركات ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على مسرح الشرق الأوسط الجديد باتت واضحة، ومكوثه في الولاياتالمتحدةالأمريكية حاليًّا كزبون كبير لواشنطن، ومطالبة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، له بالتنازل عن جزء من الثروة السعودية لصالح أمريكا في ظل صمت بن سلمان، كل هذا يشي بأن الأخير يسير وفق الأجندة الأمريكية، وضغوط بن سلمان على رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، للقبول بصفقة القرن يكشف الوجه القبيح للنظام السعودي للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، فأحد أهم مظاهر الصفقة المزعومة هي أن تطبع الدول العربية مع الكيان الصهيوني قبل الوصول إلى حلّ نهائي للقضية الفلسطينية، وفتح الأجواء السعودية مؤخرًا للطائرات المتجهة لإسرائيلي لا يبتعد عن مضمون صفقة القرن، خاصة أن علاقات جوية وبحرية وبرية بدأت تجمع بين الرياض وتل أبيب، كجزيرة تيران وصنافير، والحديث عن سكة حديد تجمع بين الرياض وتل أبيب.