مع بداية الأزمة السورية عام 2011 كانت أنقرة تتمتع بمرونة كبيرة في التنقل على حبال الأزمة، فهي تارة مع الموقف الأمريكي المناهض للنظام في سوريا، فتتقارب مع السعودية وقطر، وتارة أخرى تجدد تحالفاتها لتتبنى الموقف الروسي الداعم بالأساس للنظام السوري، فتتقارب مع إيران وتتبنى أستانا وترعى سوتشي. أنقرة ستفقد الكثير من مرونتها ومناورتها السياسية والعسكرية مع حلفائها، في حال تدخلها العسكري المرتقب في عفرين السورية، ما سيحشرها في زاوية صعبة في تعاطيها مع واشنطن، ومع أعدائها الأكراد، المدعومين بطبيعة الحال من واشنطن، فبالرغم من استكمال الاستعدادات التركية للمعركة ومواصلة أنقرة التهديد بتوسيع عملياتها العسكرية في الشمال السوري لتستهدف عفرين ومنبج، لا يزال قرار المواجهة يتأرجح في ميزان الربح والخسارة عسكريًأ وسياسيًا. مجلس الأمن القومي التركي عقد اليوم اجتماعًا ترأسه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تبعه عقد جلسة حكومية طارئة، ويأتي ذلك بعدما أعرب أردوغان للأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، في مكالمة هاتفية عن غضب أنقرة من إعلان التحالف الدولي بقيادة واشنطن، تشكيل قوة حدودية جديدة قوامها 30 ألف فرد يتوقع أن تشكل قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية قوامها الأساسي. ويواصل الجيش التركي، وسط تدابير مشددة، نقل قواته ومدرعاته العسكرية إلى محافظاته الجنوبية المحاذية للشريط الحدودي مع سوريا، ما ينذر بقرب ساعة المواجهة بين الجيش التركي ووحدات الحماية الكردية في مدينتي عفرين ومنبج في الشمال السوري. الرئيس التركي كشف في خطابه أمام كتلته البرلمانية أن رأس الحربة في العملية العسكرية ضد المسلحين الأكراد ستقودها فصائل المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا، ما يعني أن المواجهة في حال وقعت ستكون بالوكالة بين حلفاء أنقرة في الشمال السوري، وحلفاء الولاياتالمتحدة من الأكراد، بدوره قال قائد الجيش التركي، خلوصي أكار، إن بلاده لن تسمح للوحدات الكردية بتلقي أي دعم خارجي. فصائل المعارضة السورية التي تتحرك تحت اسم قوات درع الفرات تستعد هي الأخرى للمعركة بعد أن أعادت هيكلة نفسها، وحصلت على مزيد من الدعم العسكري التركي، وتتمركز هذه الفصائل بين مدينتي جرابلس شرقًا وأعزاز غربًا، أي أنها تقع بين مدينتي عفرين ومنبج، الأمر الذي سيضع عبء الضربة عليها عندما تحين ساعة الصفر. ويرى مراقبون أن الموقف التركي لا يمكن أن يتراجع قيد أنملة عن القيام بهذه العملية، وتحديدًا بعد الإعلان عن نوايا أمريكا بتشكيل جيش كردي، ويبدو أن العلاقات الأمريكية التركية الآن باتت على المحك، فعلى الجانب السوري من الحدود تستعد قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردي التي تشكل عمودها الفقري للحرب العسكرية، وتقول تركيا إن حلفاءها في الولاياتالمتحدةالأمريكية يواصلون إرسال الأسلحة المتطورة لها، في وقت يخضع فيه المسلحون الأكراد لتدريبات شاقة على يد قوات أمريكية خاصة، استعدادًا لتشكيل نواة ما بات يعرف بجيش الشمال، الذي تريد واشنطن أن يصل قوامه إلى 30 ألف مقاتل، ويعتقد مراقبون أن هذا الرقم سيصل مع القوات شبه العسكرية إلى 70 ألف، مهمتهم إدارة المعابر وحماية الحدود مع كلٍ من العراقوتركيا، وهو ما اعتبرته أنقرة تهديدًا لأمنها القومي، فتركيا لا تخفي مخاوفها من قيام دولة كردية مسلحة وقوية على حدودها الجنوبية، الأمر الذي قد يفتح شهية الأكراد في تركيا والذين يشكلون نحو 20% من سكانها على اتباع ذات النهج والمطالبة بالانفصال عن الجمهورية التركية، كما حاولت أن تفعل كردستان في العراق، كما أن الدعم الأمريكي للأكراد يقلق أنقرة بعد أن خبرت مواجهة كردها لعقود ولم تتمكن من فك عقدتهم. المتحدث باسم التحالف الدولي بقيادة واشنطن، ريان ديلون، أكد خلال تصريحات صحفية في بروكسيل أن مدينة عفرين السورية التي أعلنت أنقرة أنها ستطلق عملية عسكرية فيها، تقع خارج نطاق عمليات التحالف، من جانبه دعا المتحدث باسم البنتاجون، أدريان رانكين غالاوي، جميع الأطراف إلى تخفيف حدة التوتر على الحدود السورية التركية، مشيرًا إلى أن التحالف الدولي لا يشن أي عمليات عسكرية في منطقة عفرين، وأكد أن الولاياتالمتحدة تتعاون بشكل وثيق مع تركيا حليفتها في الناتو، خاصة فيما يتعلق بدعم قوات سوريا الديمقراطية التي تعد شريكًا لا غنى عنه لمحاربة داعش، وأشار المسؤول الأمريكي إلى أن واشنطن تتفهم قلق أنقرة من نشاط حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره إرهابيًا. وتبدو تركيا بعد قرار التحالف الدولي تشكيل قوة حدودية في سوريا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما فتح باب المواجهة في عفرين، وهي مواجهة قد تورط أنقرة في الشمال السوري، أو الاستمرار في الاعتراض والتهديد فقط، لكن ذلك يمنح أعداءها الأكراد فرصة للاستقواء أكثر أمام أعينها. ولا تبدو روسيا بعيدة عن هذا الصراع التركي الأمريكي في عفرين السورية، خاصة أن روسيا قريبة من الموقف التركي، فموسكو قالت إن جهود الولاياتالمتحدة لتأسيس جيش في سوريا قد تلحق الضرر بوحدة تراب البلاد، وأضافت: ننتظر توضيحًا مفصلًا منها في هذا الخصوص، كما أن الحكومة في سوريا، والتي بدأت تثبت وجودها وبقوة من خلال انتصارات الجيش المتلاحقة على غالبية الأرض، قالت إن الجيش السوري عازم على إنهاء الوجود الأمريكي وأدواته وعملائه في البلاد، ولكن الحكومة السورية تنظر إلى تدخل أنقرة في سوريا بوصفها دولة محتلة، وهو الأمر الذي قد يزيد من تعقد الحرب في عفرين حال وقعها.