في ذكرى رحيل جلال الدين الرومي نستحضر عظمة العارفين والسالكين، الذين لا يررون لهم مأوى سوى العشق، فتظهر سجاياه عليهم فيخلدون بها. مولانا جلال الدين الرومي، شاعر، اختار حياة التصوف سبيلا للوصول إلى الله، والاتحاد معه، فكان تصوفه مزيجا من الحكمة والروحانية، والغوص في أعماق الإنسان، وبشعره الذي فاض حبا وحكمة، بلغ أسمى درجات العبقرية الشعرية. هو كما قال خير الدين الزركلي جلال الدين الرومي محمد بن محمد بن أحمد البلخي القونوي الرومي، نسبة إلى بلاد الروم، كان عالما بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم، ثم ترك الدنيا وتصوف، وهو أيضا صاحب المثنوي، وصاحب الطريقة المولوية نسبة إلى "مولانا". ولد في بلخ بفارس، وانتقل مع أبيه إلى بغداد، في الرابعة من عمره، ولم تطل إقامته بها، فقد قام أبوه برحلة واسعة ومكث في بعض البلدان طويلا وهو معه، وأخيرا استقر في قونية عام 623ه. عرف جلال الدين، بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية، فتولى التدريس بقونية في أربعة مدارس بعد وفاة أبيه عام 628ه، ثم ترك التدريس والتصنيف وتصوف حوالي عام 642ه فشغل بالرياضة وسماع الموسيقى ونظم الأشعار وإنشادها، كما نظم كتابه الشهير المثنوي، بالفارسية، والذي ترجم بعد ذلك للعربية والتركية، وهو عبارة عن منظومة صوفية فلسفية. إنّ مصادر استقاء العلم عامة والفلسفة خاصة عند جلال الدين الرومي تكاد لا تحصى، كما هو الحال عند الكثير من المتصوفة، ولكن الأبرز عند مولانا هي الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والفلسفة الهندية، إذ يظهران في أكثر من موضع من مؤلّفاته، كذلك هناك شبه كبير بين بعض آرائه وآراء المتصوفة المسيحيين، ومثله في ذلك مثل الإمام الغزاليّ، الذي اقتبس بعض آيات من الكتاب المقدس، مبدّلا بعض كلماتها من دون تغيير المعنى. تأثّر الرومي كثيرا بالشعر العربي، وخاصة أشعار المتنبيّ، فهناك أبيات شعرية وردت في مثنوي تكاد تكون ترجمة حرفية لبعض أشعار المتنبي، كقول مولانا: صدّقوهم، هم مصابيح الدجى أكرموهم، هم مفاتيح الرضا. أما الموسيقا، فلها دورها في شعر جلال الدين الرومي، ويعد أول من توسع في إدخالها في مجالس الصوفية، كما أنه نظم ديوان مثنوي على أوزان عديدة، بلغت الخمسة والخمسين وزنا، والناي أيضا كانت له مكانة خاصة عنده، ذلك لأن موسيقاه تتّصل بالعشق، وهو من أدخل الموسيقا إلى الطريقة الصوفية، وجعل لها مكانا مرموقا في محافل طريقته "المولوية" مخالفا بذلك ما جرى عليه الآخرون. من مؤلفاته المجالس السبعة، وهي المحاضرات التي ألقاها على طُلابه ومريديه، الرسائل، وهي الرسائل التي كتبها إلى الأهل والأصدقاء، وكتاب فيه ما فيه، وهو مجموعة من المواعظ والمحاورات، ومن أعماله الشعرية ديوان شمس تبريز، وهو قصائد غزلية حقانية، نظمها لمعلمه شمس الدين التبريزي، في بحور متنوعة، والرباعيات، وكتاب مثنوي، وهو أهم مصنفاته الشعرية، فهو ملحمة شعرية في ستة مجلدات لكنه مات ولم ينته من تأليفها، وفيها مزج الأساطير والحكايات، قاصدا بذلك تفسير المذاهب الصوفية. رحل مولانا في مثل هذا اليوم عام 1273م، ودفن في مدينة قونية، وأصبح مدفنه مزارا إلى يومنا هذا، وبعد مماته قام أتباعه بتأسيس الطريقة المولوية الصوفية، والتي اشتهرت بدراويشها ورقصتهم الروحية الدائرية التي عرفت بالسماح والرقصة المميزة.