الوحدة هي تعدُّد مختلِفٌ يتكامل. فلا وحدة بلا تعدد، ولا وحدة بلا اختلاف، ولا وحدة بلا تكامُل. الجسم البشري لا ندركه إلا بتركيبٍ متناسق متكامل لجميع أعضائه. فلا يمكن لليد، مثلاً، أن تمثل الجسمَ كلَّه. ولا يمكن أن نجعل أعضاءالجسم نسخًا بعضها عن بعض – وإلا فلا داعي لوجودها. يجب أن يكون كلُّ عضو مختلفًا عن الآخر، لكنه منسجم معه ويعمل معه، لا ضدَّه. فلا يمكن للقلب، مثلاً، أن يعمل بلا دم، ولا للدم أن يعمل بلا شرايين، ولا للشرايين أن تعمل بلا لحم، ولا للَّحم أن يعمل بلا عظام، وهكذا. ومَن يجعل الأعضاء نسخًا واحدة متماثلة فإنه يلغي وظيفتها، أي يلغي علَّة وجودها، أي يلغي وجودها، وبالتالي يلغي وجود الجسم ككل. ومن يفصل الأعضاء بعضها عن بعض، يلغي وجود الجسم ككلٍّ متكامل. يجب أن تكون الأعضاء مختلفة لأن وظائفها مختلفة – علي أنْ تتناغم في وحدة متكاملة تشكِّل الجسم. فالجسم، إذًا، ليس تجميع الأعضاء بعضها إلي بعض فقط، بل الجسم هو أكثر من مجموع الأعضاء: هو مجموع الأعضاء + تَكامُلها. في كثير من الدول الأوروبية المستقرّة نسبيا منذ الحرب العالمية الثانية لا يدور الحديث عن وحدة وطنية أو حكومة وحدة وطنية، ولكن لا يوجد أيضا من يشكّك في وجود الوحدة الوطنية بالفعل، أو يزعم وجود أزمة علي هذا الصعيد، كما أنّه لا يوجد مَن يصوّرها وكأنّها تعني توحّدا مطلقا خلف نهج أو حزب حاكم، أو تطابقا كاملا بين الأفكار والتصوّرات والمناهج، بل توجد الأدلّة علي استشعار وجودها رغم تقلّب التشكيلات الائتلافية الحاكمة مع تقلّب الغالبية في الانتخابات. أمّا في البلدان العربية والإسلامية مثل: 'العراق وفلسطين ومصر ولبنان وسوريا، فقد شغلت كلمة الوحدة الوطنية وشغل الحديث عن حكومة وحدة وطنية نسبة عالية منالتصريحات والمواقف والجهود المبذولة، ولكن ليس في قالب 'مساعي التوحيد' بل في قالب منازعات جلّها يدور في نهاية المطاف حول محور جوهري، وهو مطالبة الآخر بالانصياع أو جرّه إليه جرّا، وهذا جنبا إلي جنب مع تفاقم الأخطار علي الأوطان وساكنيها. وفي حالة ما يوصف بالاستقرار -والقصد هو استقرار السلطة- نجد كلمة الوحدة الوطنية أو الحفاظ عليها، تُستخدم غالبا بأسلوب تسويغ استبداد قائم، بمعني توجيه الاتّهام بتعريض 'الوحدة الوطنية' للخطر لسلب المعارضة حريّة الفكر والتصوّر والمنهج، وحقّ الاعتراض علي الاستبداد.مثال الدول الأوروبية يشير إلي أنّ حالة الوجود الفعلي للوحدة الوطنية لا ترتبط بمسألة 'مَن' يشغل السلطة الآنيّة، بل ترتبط بوجود اقتناعات عامّة بين غالبية سكان بلد واحد بأهداف ووسائل مشتركة وارتباطات مصلحية وغير مصلحية داخلية وخارجية لدولة قائمة في بلد معيّن، وهو ما يقوم في الأصل علي أسس أشبه بالثوابت، تنبثق عنها تطبيقات عملية، تمارسها السلطة الآنية، وفق مفهوم سيادة الإرادة الشعبية، بغضّ النظر عن مظاهر معيّنة للتأثير عليها، بممارسات مقبولة ومرفوضة في نطاق الديمقراطيات الغربية المعاصرة. واجتهد منظّرون غربيون في التمييز بين 'وحدة قومية' و'وحدة وطنية'، وتبدو نشأة الأخيرة حديثا مرتبطة ارتباطا وثيقا بوجود الدولة الحديثة، التي كانت نشأتها الأولي وليدة القومية ابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي. وتميّز القوميةُ مجموعةً بشرية عن أخري انتمائيا، ويستند الانتماء إلي معالم يختلف علي تحديدها أصحاب النظريات القومية كاللغة أو الجنس أو الثقافة، وأوّل ما برز مفهوم الدولة القومية كان في نطاق حرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية، فساهم في تشكيلة النظام العالمي/ الغربي عبر القرن التاسع عشر الميلادي بقيام دول قومية، وذهب فلاسفة وعلماء غربيون مذاهب شتّي في أطروحاتهم عن القومية ما بين تأييد ورفض لم يميّز الفكر القومي في القرن الثامن عشر الميلادي بين كلمتي أمّة/ **Nation** التي رُبطت لاحقا بمفهوم القومية، وشعب 'أو سكان بلد أو دولة'/ **People**، وهو التمييز الذي بدأ بالظهور في القرن العشرين الميلادي، وصحيح أنّ كانط كان من أوائل مَن ربط مفهوم الشعب بالانتماء، ومفهوم القومية بالمواطنة، ولكنّه ربطٌ يناقض الفهم المعاصر للكلمتين، فالقوميات يمكن أن تتعدّد في دولة تضمّ 'شعبا واحدا' جميع أفراده مواطنون فيها. كما أنّ القائلين: إنّ وحدة الدولة تقوم علي 'الأهداف والدستور وتنظيمها داخليا مع ارتباطها بوحدة شعبها قوميا' يتناقضون في هذه المقولة مع واقع الدول القائمة، وبهذا الصدد يسعي مؤلّفو الكتاب المرجعيّ في ألمانيا حول 'قانون الدولة'/ **Handbuch des Staatsrechts**، إلي التوفيق بين المفهومين، إذ يقولون: إنّ 'وحدة الدولة -وهي الأقرب إلي مفهوم الوحدة الوطنية- تقوم علي وحدة الأمّة الموجودة سابقا، اعتمادا علي معطيات معيّنة كالتاريخ والثقافة -وإنِ استحال أن تكون وحدةً كاملة- ولكن لا يمكن أيضا اصطناعُها بإجراءات فوقية'.هذا ما يلتقي نسبيا مع الفيلسوف المعاصر يورجن هابرماس **Jürgen Habermas** الذي ميّز بين 'أمّة الدولة' 'وهو مفهوم يتّصل بالوحدة الوطنية'، فاعتبرها ناشئة عن 'اندماج أفراد عبر إرادة مشتركة، تثبّتها الحقوق والواجبات الدستورية'، و'الأمّة الثقافية' 'وهو مفهوم يتّصل بالقومية'، فاعتبرها ناشئة عن 'معطيات جغرافية وثقافية ولغوية وغيرها'.تشكل مسألة الوحدة العربية وكافة مفردات الخطاب التي تولدت عنه أحد أكثر المحاور إثارة للنقاش بين كافة التيارات الإيديولوجية والسياسية في الوطن العربي، كل منها كان يريد أن يشحنها بمضامين فكرية وايديولوجية تتناسب ومنطلقاته الخاصة، وتقدم مداخلتي مقاربة سياسية ونقدية معاصرة مبتعدة قدر الامكان عن القراءة المأدلجة وعن الاسقاطات التاريخية والنظرية. فالمنظور الإسلامي السياسي المعاصر لم يقدم موقف واحد تجاه هذه القضية بحكم تعدد الاتجاهات والمدارس داخل هذا التيار، فالسيد رشيد رضا الذي يعتبر أباً روحياً لحسن البنا لم يكن يري تناقضاً بين العروبة والإسلام، بل هو ذهب عند اشتداد التنافر التركي العربي أبعد من ذلك، فلم يتوان عن دعم الحركة المطالبة بإقامة دولة عربية مستقلة تجمع الجزيرة العربية مع الأمصار العربية الواقعة تحت السيطرة العثمانية. في إطار هذا التصالح بين العروبة والإسلام تبلور فكر حسن البنا عند نظرية 'الحلقات' التي تشكل العمود الفقري في رؤيته للمسألة القومية، إذ إن مشروعية كل واحدة من هذه الحلقات تُستمد من تكاملها وقابليتها للتفاعل مع بعضها، والواقع إن نظرية 'الحلقات' هذه ليست بدعة حسن البنا الخاصة، فابن باديس المصلح الجزائري الديني كان أحد منظريها الأوائل، وعبد الناصر كان من رعاتها الكبار ولو بالكثير من التعديل، والنصوص الأخوانية المعاصرة أدخلت عليها تعديلات لتلاءم منطوق العصر. ارتبطت الوحدة الأوروبية، منذ البداية، بالضرورة التاريخية وقانون المنفعة، وكان المشروع براجماتيا بامتياز. وفي وضع كهذا تكون عوامل المنفعة وحدها الجديرة بالاعتبار، في كل محطات تنفيذ المشروع. لقد جعلت عوامل المنفعة كل طرف من أطراف الشراكة الأوروبية يسعي للحصول علي مكاسب أكبر. وذلك أمر طبيعي، ومشروع، حين لا يكون استئثارا، أو تهميشا لأدوار الشركاء الآخرين. وكان من الطبيعي أن يمر مشروع الاتحاد الأوروبي بمعوقات، بسبب التراكمات التاريخية. فقد برز قلق فرنسي من تنامي الدور الألماني، بعد الحرب الباردة، بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. وشاطر عدد من البلدان الأوروبية من ضمنهم بلجيكا وهولندا، القلق الفرنسي. وهناك أيضا انشطار أوروبا إلي كتلتين، مختلفتين في أنماطهما السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. وكان هناك تنام للنزعة الاستقلالية، لدي فرنسا الديغولية، وتماه تام في السياستين الأمريكية والبريطانية. أعاقت هذه الحقائق انطلاقة مسيرة الاتحاد الأوروبي، وأخرت إعلان قيام المواطنة الأوروبية، لما يقترب من نصف قرن، تم تجاوزها في النهاية، بالتصميم والإرادة، ووعي قادة أوروبا وشعوبها، لدور الكتل الإنسانية الكبري في صناعة القوة، بكل تشعباتها. المشكلات التي تعرضت لها مسيرة الاتحاد الأوروبي، لها ما يماثلها عربيا. فكما أن البون شاسع، بين دول الاتحاد الأوروبي، من حيث الكثافة السكانية والحجم والقوة الاقتصادية، فإنه كذلك بالنسبة للبلدان العربية. فهناك أقطار عربية، يتجاوز تعداد سكانها 80 مليون نسمة، كما في حالة مصر، وبلدان أخري، لا يتجاوز سكانها المليون نسمة، كما في حالة البحرين وقطر وجزر القمر. وفي الحجوم، هناك دول تقترب في اتساعها من حجم دول أوروبا مجتمعة: السودان قبل أن ينفصل الجنوب طبعا، والسعودية والجزائر. الدكتور عادل عامر دكتوراه في القانون وخبير في القانون العام