في 2014، أعلن علماء "الكونيات" عن إمكانية صناعة "انحناء" في نسيج المكان والزمان "الزمكان"، ثم اختراقه والانتقال إلى مكان وزمن آخرين في نفس اللحظة، وهو الاكتشاف المذهل الذي ألهب خيال صناع السينما في "هوليوود"، وتنبأت به نظرية النسبية ل"أينشتاين" منذ قرن مضى، وفي نفس العام، 2014، كان الفنان الاستثنائي خالد صالح قد حزم أمتعة الرحيل للانتقال إلى زمنه الجميل الذي جاء إلينا منه، وحجز نقطة انطلاقه من أقصى مكان في جنوب مصر، وأكثرها نقاء، حيث لا شوائب تعوق الرؤية في الطريق، ولا شيء سوى الإخلاص واليقين، مركز الدكتور مجدي يعقوب للقلب، حيث أغمضت هناك عيناه في مشهد النهاية. ولأننا لا نعرف بالتحديد أين هو الآن، ذلك "الخالد" "الصالح"، الذي ودع جمهوره ب"قلب مفتوح"، في مثل هذه الأيام من عام 2014، وانتقل إلى "زمكان" آخر تنتمي إليه روحه الطيبة، ولكن منذ أن عرفه الجمهور، وفي داخلنا شبه يقين أن روحه الفنية تقارب في ملامحها شخصيات عشقناها من زمن الفن الجميل الحقيقي، تماهى فن خالد صالح مع العبقري الراحل محمود المليجي وزكي رستم، وبدا كأن شيئاً ما يجمع الثلاثي، رغم أن حسابات الزمن (الذي نعرفه) لم تجمع خالد صالح بسابقيه، ولكن ليس ما نعرفه هو كل الحقيقة. بدايات "صالح" كانت أشبه ب"العالق" بين زمنين، مشوش الاتجاهات، يجوب الشوارع، يقود سيارات التاكسي، يبيع الحلويات، يمشي "كومبارس صامت"، على خشبة المسرح الذي يعشقه، لمجرد أن يراه الجمهور، حتى لو يسمعه أحد. قال عن المسرح: "المسرح هو أستاذي اللي علمني صوتي في الفراغ واستخدام جسمي أيضاً في الفراغ"، ويبدو أن براح "الفراغ الكوني"، كان ملعباً فريداً صال وجال فيه خالد، وحده، بجسد وروح لا يخضعان لقوانين الجاذبية. كانت قوة الدفع الرباعي، "صالح" وأصدقاؤه في كلية الحقوق، أسماء صارت فيما بعد نجوماً براقة في سماء الفن، ما عدا هو، ظل الضلع الناقص في مربع الشهرة، رفقاء الجامعة كانوا خالد الصاوي (الأقرب إلى قلبه)، ومحمد هنيدي ومحمد سعد. بعد تخرج "الرباعي"، انطلق ثلاثة منهم إلى عالم الفن، واستطاع ثلاثتهما شق طريق النجومية الوعر، ولكن رابعهم "الخالد الصالح" ظل عالقاً في المكان، متعثراً في طرقات الزمن، يعمل بالمحاماة قليلاً فيتوقف، يجوب البلاد بحثاً عن شيء ما ضائع منه، يسافر إلى الخليج عساه يجده، ولم تفلح محاولاته، لم يحتمل قلبه الصغير تعب السفر عبر الأزمنة، فما كان من قلبه إلا أن نطق بالوجع، بكل وضوح، وهو في بدايات ثلاثينات عمره، بحسابات الزمن الأرضي. وجاءته بشرى القدر الجديد، إيذاناً بموعد بداية الرحلة الفنية التي تأخر موعدها، وفق حسابات البشر، ولكن في علم "الكونيات" فإن السير وفق سرعة عالية يعني أننا نساهم في تغيير سرعة دوران عقارب الساعة حولنا، مما يعني أننا مسافرون عبر الزمن، ومنذ اختيار المخرجة الكبيرة "إنعام محمد علي" ل"الخالد" لتجسيد دور الشاعر المرهف مأمون الشناوي، في مسلسلها الأشهر "أم كلثوم"، بدأت الرحلة، عام 1999، وفي أول عام بالألفية الثالثة، تتخذ رحلة "الخالد" مساراً مثيراً في دور رئيس جهاز المخابرات الأسبق "صلاح نصر"، وهو الشخصية الأكثر جدلاً في تاريخ مصر المعاصر، في فيلم "جمال عبد الناصر"، بطولة صديق عمره "خالد الصاوي". وبرغم أن الفيلم لم ينل حظه من النجاح، إلا أن "الخالد الصالح" عرف مساره الكوني، وتحسس مداره جيداً نحو قرص شمس النجومية، واستطاع بمشهد واحد في فيلم "محامي خلع" أن يلفت إليه الأنظار، وهو يجلس بشموخ وخفة ظل على منصة المحكمة، ليفصل في قضية خلع "العصفورة" و"العنتيل"، في حوار عبقري للكاتب وحيد حامد. في 2003، عبر مشاهد قليلة بأول بطولة سينمائية لأحمد حلمي، فيلم ميدو مشاكل، لفت انتباه الجمهور والنقاد، في دور ضابط المخابرات المزيف، وبعدها بعام، كانت اللحظة الفارقة، تحويل مسار أكثر اقتراباً من النور، فيلم "تيتو"، لتحفظ الجماهير "الإيفيه" الخالد للضابط الفاسد "أنا بابا يالا"، وتضاء أنوار قاعة العرض الخاص للفيلم، ويهرع الفنان "أحمد السقا" نحو "خالد صالح" ويقبّل رأسه أمام الجمهور، ويعتبره منذ تلك اللحظة "تميمة النجاح" في معظم أفلامه، حرب أطاليا، عن العشق والهوى، ويشاركه البطولة "كتفاً بكتف" في فيلم "ابن القنصل"، ويدهش خلاله الجميع، ولا يصدق أحد أن هذا القنصل النصاب العجوز ما زال على أعتاب أربعينيات عمره، بحسابات الزمن الأرضي. وبين الأربعين والخمسين، عقد زمني وحيد بحساب السنين الأرضية، ولكنه عقود وعهود كاملة، بتوقيتات "السفر عبر الأزمنة" التي كان يرتحلها خالد صالح، تقافزت نجوميته بسرعة تفوق ما تدركه الأبصار، ويزداد النجم لمعاناً بشكل يخطف القلوب، وكأن سرعته يستمدها من تلاقي "كمّي" و"كيفي" لأزمنة متعددة، فيتحرك بصورة مغايرة لمعادلات الفن في الزمن الحالي. رحلة قصيرة، مكثفة لدرجة الدهشة، قطعها "خالد" في ساحات الفن، حصد فيها أرفع الأوسمة الجماهيرية، وتحولت كلماته إلى أقوال مأثورة، خالدة كمثله، يردّدها الجميع فور سماعها في حوارات أفلامه، هذا الشيطان الرجيم في فيلم "الريس عمر حرب" الذي تخيفنا نظراته وترعشنا ترددات صوته وهو يقول: "هتروح على فين.. العالم ده كله بتاعي". أدهش "خالد" من لا يندهش أبداً، وأقنع بموهبته الفذة المخرج الراحل يوسف شاهين، ليمنحه دور عمره في فيلم "هي فوضى"، ويصبح البطل "الصول حاتم" "أيقونة الظلم" ورمز العهد البائد، وشرارة النبوءة بثورة يناير، وهو يوجه "إبهامه" نحو صدره في عنجهية مردداً جملته الشهيرة: "اللى ملوش خير في حاتم ملوش خير في مصر". ومن ينسى دوره العبقري في فيلم "فبراير الأسود"، وهو ممسك بمشرط جراح ماهر، لتشريح جسد الوطن العليل، الذي افترسته الأنظمة الغابرة، فجعلت "المواطن المصري" لا يساوي شيئاً إلا لو كان "مواطن وحاجة"، ثم يتقمص "خالد" أحب الأدوار إلى قلبه، باعترافه، في "عمارة يعقوبيان" ويردد الوزير الفاسد "كمال الفولي" جملته الشهيرة: "الشعب المصرى كله ماسك في ديل الحكومة كأنها أمه اللي خلّفته، حتى لو كانت الحكومه دي ماشية على حل شعرها". ويؤون أوان "خالد تليفزيونياً"، ويحلق بمواهبه الفذة في سماء البطولات الدرامية، مسلسلات "سلطان الغرام"، "بعد الفراق"، "الريان"، "تاجر السعادة"، وأخيراً "حلاوة روح"، وحملت جميعها أسماء "ذات مغزى" في حياة خالد صالح، كتبتها أقداره قبل أن يختارها مؤلفو هذه الأعمال. وكما كان أول ظهور "مدهش"، لخالد صالح، مع أحمد السقا، في فيلم "تيتو"، يشاء القدر، أن يكون "آخر ظهور سينمائي" لهما معاً، بقيادة المخرج الكبير شريف عرفة، في دور "الشيخ جعفر" كبير الرحالة، بالجزء الثاني لفيلم "الجزيرة"، ولكن مشيئة القدر لم تهمل "خالد" مزيداً من العمر لحضور العرض الخاص. ينطلق "الخالد الصالح" ممتطياً صهوة جواده الأسطوري، في سباق مع الزمن الراكد، حتى يصل إلى نقطة النهاية المرسومة، وفي عامه الخمسين، بمقاييس الزمن الأرضي، يعبر برزخ الحياة الأبدية، تاركاً "قطعة منه" نفخ فيها شيئاً من روحه، فصار ولده "أحمد" يحمل نبض أبيه، وفيضاناً متجدداً من الحب في قلوب الجماهير، تشتاق "خالداً" إلى اللانهائية وما بعدها.