قبل البداية، كان عنوان الحلقة الأولى لمسلسل «الاختيار» الذي يجسِّد حياة الشهيد أحمد منسي، بطل الصاعقة المصرية، وهو وصف مثير للانتباه ومحفز للتفكير فيما وراء وما قبل زمن ومكان الحدث الدرامي المنتظر، أو بمعنى أدق «زمكان الحكاية». وقبل البداية، لا يمكن بحال أن يتمكن أعتى النقاد من تحليل الزوايا الفنية لعمل درامي بمجرد إذاعة حلقة أو اثنتين؛ ولكن الصورة ها هنا مختلفة، عمل درامي ضخم بحجم «الاختيار» نستهل به الشهر الكريم، ليحمل إلينا نسمات الشهداء العطرة، ويحفر ممرات الذاكرة ويفرشها بورود التضحية، ف«أهلاً ومرحباً» بمسلسل «سياسي» في إطار أحد تعريفات الدراما السياسية، بأنها «الدراما التي تتضمن قيماً مثل الحنين للوطن والتوحد معه، وأن هناك قيماً أغلى للعيش من أجلها، وهي ثرية جداً لدرجة الموت من أجلها». نقطة الصراع ولدت أمام أعين المشاهدين منذ اللحظة الأولى لعرض المسلسل، والقبض على الإرهابي هشام عشماوي، وتوقف الزمن لدى عدد من الشخصيات، وتناولها من وجهات نظر مختلفة، بين أهالي الشهداء الذين يشفي صدورهم مشهد الإرهابي وهو مكبل بالقيود، معصوب العينين، وبين أهل الإرهابي الذين أفجعهم هول المنظر، وظلوا يتوعدون بالانتقام وإراقة دماء المصريين جميعاً. ثراء درامي لا نهائيا، ينتظره جمهور المشاهدين لمسلسل «الاختيار»، فالشخصيات الرئيسة متعددة، بين البطل الأول، نسخة الخير، العقيد أحمد منسي، وأسرته، والنسخة الشيطانية الإرهابي هشام عشماوي، وأسرته، وشخصيات أخرى تثري العمل من القيادات، والمجندين وضيوف الشرف من النجوم الكبار. منذ اللقطة الأولى، بدا وكأن هناك طوفانًا متلاحقًا من الأحداث المتشابكة، يلهث المشاهد وهو يتابعها، دون أن تتسرب إليه لحظة ملل، قفزات درامية مصحوبة بمؤثرات بصرية، ونقلات تكشف تناقض مفهوم «تقوى الله» بين رمزي الخير والشر، وفلاش باك مفاجئ يوضح تفاصيل أخرى عن الصورة، وتضع في ذهن المشاهدين أبعاداً متكاملة للقصة والصراع. ربما كانت المرة الأولى التي يتناول فيها عمل درامي عدداً متوازياً من السير الذاتية لأبطال ومجرمين معاً، وفتح ملفات إنسانية تكشف الأبعاد النفسية لشخصيات هامة حفرت اسمها في تاريخ الوطن، في زمن الحرب الشرسة التي تخوضها البلاد ضد طاغوت الإرهاب، وهي الحرب التي لا زمن لها، بل تكاد تكون حرباً تقف خارج كل زمن وتاريخ، فمسلسل «الاختيار» هنا لا يمكن أن تطبق عليه معايير العمل التاريخي التوثيقي فقط، وإنما يكشف ما يعتمل بهذه الشخصيات التي يسرد العمل مشوار حياتها لفترة زمنية بعينها. يذهب الكاتب المسرحي «جورج بوشنر» في رؤيته لعلاقة المسرح بالتاريخ، إلى أن الشاعر المسرحي يعتلي مرتبة أعلى من المؤرخ، حيث «يخلق» التاريخ مرة أخرى، ويغوص بالمتلقي في حياة أحد العصور، بدلاً من أن يكتفي بتقديم «سرد جاف» عنه، فيكشف طبائع وعادات الشخصيات، وكيف تشعر من داخلها، فيتفاعل معها الجمهور، وهنا من حق الفنان أن يتدخل في الحياة الخاصة للشخصية محل السيرة الذاتية، فمن مهمة الإبداع أن يتقاطع مع النفس البشرية، ويغوص فيها فيكشف الجوانب الخفية، ومواطن القوة والضعف البشري، وبقدر ما يستفيد العمل الدرامي التاريخي من وقائع التاريخ، بقدر ما يضيف إليها روحاً نابضة بالحياة. وكان الأديب العالمي ويليام شكسبير، في مقدمة صفوف المبدعين الذين مزجوا التاريخ بالفن، واكتشفوا الخلطة السرية للاستفادة من وقائع التاريخ، مع حرية الحذف والإضافة لتفاصيل وعناصر غير ملهمة درامياً، وكأنه كان يقطّر التاريخ من كل شوائبه، فيعطي الدروس والعظات للجمهور، مع جرعة استمتاع لا بأس بها. وفي مسلسل «الاختيار»، وبرغم تصنيفه ضمن إطار دراما الحرب، إلا أن الحروب النفسية الخفية تلقي بظلالها الواسعة على الأحداث بشكل كبير، ويتحرق الجمهور شوقاً لمعرفة ما خفي من ملامح الصراع بين الخير متمثل في كتائب المقاتلين الشجعان، وبين طيور الظلام الجبناء الأشرار، وفي حين لا يذكر المؤرخون سوى الأسماء وأرقام الضحايا، والأحداث الرئيسة المؤثرة، تتناول مثل هذه النوعية من «الملاحم الوطنية» كافة الأبعاد والعناصر الوجدانية والعاطفية والإنسانية لمختلف الأطراف. ومن المثير للفضول، أن عنصري الخير والشر الرئيسين في المسلسل، منسي وعشماوي، وكلاهما كان له «اختياره» في الحياة، وبرغم ذلك عاشا في خطوط متقاطعة فترة من الوقت، خلال وجودهما بالخدمة، قبيل أن ينحرف الإرهابي عن طريق الحق بشكل معلن رسمياً، بترك الخدمة وانضمامه للجماعات التكفيرية ليتلون طريق حياته بالدماء وخطايا الذنوب والكبائر، وهو الذي كان يتشدق بالشعارات الرنانة حول تمكين دين الله، والدين من أمثاله براء. كيف كان لنا، دون الدراما، أن نكتشف التناقض الواضح بين الشخصيتين، ففي الوقت الذي «يتقي» فيه العقيد منسي، ربه، ويتعامل بالحسنى مع العباد، وينصح «صاحب الشعار»، عشماوي، بأن يلين القول ويرحم مرؤوسيه من الجنود، مصداقاً لقوله تعالى: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك»، ها هو العقيد منسي يعطي دروساً في الرحمة والتدين، لمن لا قلب له، عشماوي، في الوقت نفسه تشي خطوط وجه عشماوي بأقسى ملامح الظلم والتجبر. لم يكن اختيار الفنان أمير كرارة لأداء دور البطل الشهيد أحمد منسي، مفاجئاً للجمهور الذي اعتاد في السنوات الأخيرة على متابعة نجمه المفضل، باشا مصر، وهو يحارب قوى الشر، خلال أجزاء مسلسله «كلبش»، ولكن البطل ها هنا، خلع عباءة «سليم الأنصاري» الخيالية، وارتدى «المموه» ليتقمص شخصية حقيقية من لحم ودم، عاش على أرض مصر، حارب من أجلها، كشف المؤامرات الخفية، خاض في صفوف جيشها العظيم معارك ضارية، وسطر بطولات مع زملائه، حتى ارتقى في سبيل الوطن، شهيداً لا تحسبنه ميتاً أبداً. أداء هادئ لأمير كرارة، على المستوى الإنساني للشخصية، بار بوالديه، يقدم الخير والنصح والمساعدة للآخرين، ضخم البنيان، لديه لياقة بدنية تليق بلقب أسطورة الصاعقة المصرية، ويخطو «كرارة» في «الاختيار» قفزة واسعة في مشوار التربع على عرش النجومية. كانت المفاجأة، منذ بداية التجهيز للعمل، تخصيص مساحة موازية للإرهابي هشام عشماوي، والذي كتبت الأقدار لحظة نهايته، بتنفيذ حكم الإعدام، بينما كان الفنان أحمد العوضي، يقف في لوكيشن التصوير يجسد مشاهد من حياته الدموية الغاشمة. قبول «العوضي» للدور يعد مجازفة فنية كبرى، وإن كانت المغامرة تحمل في طياتها أسباب ضمان النجاح الجماهيري، قدرات الفنان الشاب التمثيلية جديرة بالاحترام، ولعل نظرات عينيه التي يتفجر منها الشر، ستكون إحدى أدوات الإمساك بشخصية الإرهابي، ونبرة صوته الخشنة، وخطوط وجهه الصارمة، ينتظر الجمهور منها الكثير، في كل حادث إرهابي أسود ينفذه، ويتابع المشاهد تفاصيله من داخل أعماق الشخصية. كان المصريون، على مدار السنوات الثلاثة الماضية، يتابعون بحسرة ومرارة تفاصيل استشهاد العقيد أحمد منسي في رفح، 2017، وبعد مرور السنوات الثلاثة، وبالتحديد منذ بداية أول يوم في شهر رمضان الكريم، يحبس المشاهدون أنفاسهم كل مساء؛ لمتابعة دقائق مشاعر وأحساسيس وانفعالات وافكار وعواطف وسلوكيات الشهيد العظيم، يرونه أمامهم من لحم ودم، ينادي على زوجته ب«اسم الدلع»، مشمشة، يقبل يد والدته، ويطلب رضا والده، وينصح معارضيه بالحسنى، ولا يتهاون مع أعداء الوطن. وربما جاء «الاختيار» موفقاً من جانب المخرج «بيتر ميمي» ليستهل «قبل البداية»، وقبل نزول تتر الحلقة الأولى، بمشهد «حقيقي» من حادث معركة «البرث» والهجوم الإرهابي الغاشم على الكمين الحدودي قرب رفح، وتضفيره في مشهد درامي للهجوم الدموي، واستشهاد العقيد البطل، أحمد منسي، وبأداء متميز من أمير كرارة، يظل يقاتل لآخر نَفَس، ثم ينطق الشهادة ويوصي زملاءه بأن «يكفنوه بملابسه العسكرية، فالشهيد لا يغسّل»، وكانت اللقطة الذكية بالتوقف عند نهوض «منسي» موجهاً سلاحه نحو العدو. اشتغلت أسرة المسلسل على مادة خام ثرية من طبيعة اجتماعية وسياسية وثقافية، ونجح باهر دويدار في كتابة مشاهد قصيرة، متلاحقة، مؤثرة، معبرة عن مكنون الشخصيات، تتقافز بمهارة بين الأزمنة المختلفة دون تشويش أو افتعال، وما زال الجميع يترقب، مع الأحداث الساخنة، على مدار الأيام المقبلة، كيف تنجح الدراما «العسكرية» في جذب وجدان الجمهور، من خلال المعالجة والرؤى الإخراجية، والأساليب الفنية، والمونتاج، والتصوير، وإبهار الديكور، والإضاءة، والملابس، والشخصيات، بقيادة المخرج المميز بيتر ميمي، وبدعم من القوات المسلحة، ليخرج عمل يليق باسم الشهيد العظيم، العقيد أركان حرب أحمد صابر المنسي قائد الكتيبة 103 صاعقة، الذي سطر في كتب التاريخ ملحمة وطنية جديدة على أرض سيناء الحبيبة، بمعركة «البرث» وقدم فيها الضباط والجنود أرواحهم فداء لبلدهم، في مواجهة الدولة الداعشية.. عمل فني ملحمي يليق ببطولات الجيش المصري، الذي ما زالت ملفاته المضيئة قادرة على استيعاب آلاف الأعمال الدرامية لأجيال قادمة.