كثير من الناس يعيشون حياة رتيبة، وفق نظام دقيق.. ينامون فى ساعة معينة.. ويستيقظون فى ساعة معينة. وقد اعتدت على ذلك فى حياتى، فأنا أنام فى التاسعة والنصف ليلا واستيقظ فى الواحدة صباحا. أى أن مجموع ساعات النوم لا تزيد على ثلاث ساعات ونصف الساعة، وقد تعودت على ذلك ومن ثم لا أستطيع تغيير هذه العادة رغم نصائح البعض لى بأن هذا يشكل ضررا على الصحة وعلى التركيز والأعصاب ولكن دون جدوى. وكثيرون اعتادوا على الذهاب إلى أعمالهم فى ساعة معينة ويمضون اليوم كما أمضوا الأمس وكما سيمضون الغد. حياة رتيبة كالساعة الدقيقة، لا تقدم ولا تؤخر.. لا تتوقف ولا تسرع.. وبشر كالأصنام أو الآلات.. يروحون ويجيئون، يعملون ويأكلون ويشربون وينامون.. فتمضى بهم الحياة رتيبة مملة وجافة. وهكذا تطوى الأيام والشهور والأعوام، ويمضى العمر بلا طعم أو لون أو معنى.. وفجأة يرى المرء نفسه وقد قوست السنون ظهره، وجعدت الأيام وجهه، وصار قاب قوسين أو أدنى من الموت. لى صديقة تعيش على هذا الحال منذ أكثر من عشر سنوات، فهى تقضى أوقات فراغها فى المنزل الذى تقيم فيه لا تغادره إلا إلى مكان عملها، ولهذا تظل حبيسة جدرانه حتى فى العطلات، وبالتالى لا تحصل على إجازة تسافر خلالها إلى أى مكان آخر ولم تشاهد فيلما أو تحضر عرضا مسرحيا. أكبر تسلية لها تتلخص فى لعبة الطاولة أو الكوتشينة مع إحدى جاراتها وهكذا تقضى حياتها وكأنها ميتة حية.. أو حية ميتة.. فليس هناك فرق. صديقتى هذه متمسكة بهذه العادات إلى درجة قصوى.. ومهما تحدثت معها لا تملك تغيير هذا النمط الذى اعتادته،فلقد آثرت أن تعيش حياتها وفقا لهذا النمط سواء فى الصيف أو فى الشتاء.. فقط هنالك بعض التغيير الذى قد يطرأ عليها فى مناسبة الأعياد.. حيث ترتدى ثوبا يخيل لمن يراه أنه جديد ولكن ما يلبث أن يكتشف أنه الثوب الجديد القديم.. الذى ما زال على جدته منذ أن ارتدته للمرة الأولى منذ خمسة عشر عاما.. أما نزهتها فتتمثل فى ذهابها إلى كورنيش النيل لفترة زمنية لا تتجاوز عشرين دقيقة تعود بعدها إلى حياتها الروتينية. أخذت أفكر فى هذه الصديقة وأمثالها وأنا عائدة من الخارج بعد أن شاهدت إحدى المسرحيات، وقد شعرت براحة وغبطة لا يمكن أن أشعر بهما وأنا قابعة فى المنزل أمام شاشة التليفزيون، أو جالسة فى أحد بيوت الأقارب يغتاب فيها الحاضرون الغائبين، أو نتجادل فى السياسة، أو يتحدث كل منا عن أمراضه وأوجاعه. التغيير عن حق مطلوب، فيوم أن شاهدت المسرحية شعرت براحة غامرة، وبعد أن نام كل من فى البيت، جلست أكتب هذا المقال الذى أرجو وأنا أتحدث عن الملل، ألا يكون مملاً. ولكن أصدقكم القول بأننى أصبحت فى الآونة الأخيرة ميالة إلى الوحدة والابتعاد ما أمكن عن الناس متهربة من مجالسهم. ولهذا كثرت اعتذاراتى عن حضور اجتماعاتهم وأمعنت فى عدم تلبية دعواتهم إلا عندما لا أستطيع «الزوغان»، وهذا قلما يحدث. لقد استمرأت الوحدة حيث وجدت فيها متنفسا لمراجعة النفس والتقرب إلى الله. وقد يكون هذا الهروب من الناس، مرده إلى ما آلت إليه الأخلاق من انحطاط فى هذه الأيام، وإلى «الذئبية» من ذئب!! التى سادت المجتمع، ومعها بات القوى يأكل الضعيف.. والكبير يبتلع الصغير. وقد يكون سبب تهربى من حياة المجتمع الصاخبة خوفى على صحتى.. وما قاسيت من الناس خلال تعاملى معهم... لذلك صار يطيب لى أن أجلس مع أعز صديق، وهو كتابى، أتحدث إليه دون تكلف.. فلا أخشى منه الغش.. أو الكذب.. أو النميمة.. أو نقل الكلام.. وللحديث بقية...