في تاريخ الامم والشعوب يولد رجال يتركون بصمات تكتب بأحرف من نور في تاريخ أوطانهم، ومهما طال الزمان وتغيرت الانظمة يظل هؤلاء هم العلامة الفارقة التي تبدأ وربما تنتهي عندها عقارب الساعة، والتاريخ مهما طالته أيدي العابثين والكارهين لايذكر هؤلاء إلا بما هم عليه وما حفرته أيديهم علي جدران بلادهم من أحداث شاهدة علي كل خطوة ما أرادوا بها الا خيرا لشعبهم، وفي ذكري ثورة يوليو المجيدة التي نحتفل اليوم بعيدها الستين نتذكر بكل حب ذلك القائد الذي التف حوله شعبه وتحملوا معه مرارة الهزيمة، وذاقوا معه فرحة النصر، احبوه حين أحس بهم وتواصل مع احلامهم في العيش والحياة الكريمة والكرامة. كان ناصر ثائرا بكل معني الكلمة لم يبحث عن مكاسب شخصية أو منصب أو جاه، ولكنه سعي بكل مايملك من قوة ومن عزم الي النهوض بمصر.. صحيح أنه مثل كل البشر أصاب وأخطأ ولكنه لم يتهم يوما في نزاهة مطامحه، جميعها كانت تصب لصالح الوطن ليس إلا وبحسب تعبير كمال الدين رفعت فان من لايثور ولايعمل هو فقط الذي لايخطئ، لقد نظر اول مانظر الي الفقراء من ابناء الشعب وكان القضاء علي الاقطاع وتحقيق العدالة الاجتماعية أحد أهم أهداف ثورة يوليو، لقد كان قانون الاصلاح الزراعي الذي صدر في التاسع من سبتمبر 1952 اول القوانين التي عكست اهتمامات الثورة ومجلس قيادتها بتحقيق التوازن المطلوب في المجتمع. لم يكن قانون الاصلاح الزراعي الذي صدر بعد أقل من شهرين علي اندلاع ثورة يوليو الا اصطفافا الي جانب الفقراء والمعوزين من ابناء الشعب، لقد كانت مصر تشبه عزبة كبيرة يتقاسمها عدد قليل من الاقطاع الذين امتلكوا مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية، فيما كان السواد الاعظم من ابناء الشعب يرزح تحت وطأة الجوع والفقر واستبداد الاقطاع، لقد كانوا يعملون أجراء في أرض 'الباشا' يعانون الذل والمهانة نظير الفتات من قوت يومهم، كانوا لايملكون من أمرهم شيئا فجاءت الثورة وحررتهم من أغلال الظلم، فحددت الحد الاقصي لملكية الاراضي الزراعية بمئة وخمسين فدانا، وتمت مصادرة الباقي وتوزيعه علي فئات الشعب من الفلاحين بحد أدني فدانان وحد أقصي خمسة أفدنة، وقد أتاحت هذه الملكيات الجديدة فرصا أفضل للعيش لهؤلاء الفلاحين واسرهم، كما أن القوانين الاخري والقرارات والخطط والبرامج التي تبنتها الثورة اسهمت هي الاخري في تحسين احوال الطبقات الفقيرة، فالتوسع في انشاء المدارس ومجانية التعليم وانشاء قاعدة صناعية كبري اسهما في حراك اجتماعي هائل بين أبناء الشعب المصري وأفرز ذلك طبقة جديدة من الكفاءات العلمية والمهنية التي شكلت نموذجا جديدا لم يكن موجودا من قبل، وهو ما اصطلح علماء الاجتماع علي تسميتها بالطبقة المتوسطة والتي ظلت لسنوات طوال تشكل العصب الرئيس للمجتمع قبل ان تتعرض لعوامل تآكل خلال السنوات القليلة الماضية بفعل كثير من السياسات الاقتصادية الخاطئة. كان عبد الناصر يؤمن بأن الاسلام يعني اسعاد الناس، ولذلك فقد وظف كل برامجه في هذا الاتجاه الذي يؤدي في نهاية المطاف الي منع استغلال الانسان للانسان، وكان أمله أن يتعلم كل شاب وأن تتزوج كل فتاة وان تحيا الاسرة حياة كريمة، وكان تكافؤ الفرص في الحصول علي التعليم وفرص العمل أكبر الاثر في نفوس ابناء الشعب المصري، فكانت فرص العمل متاحة لكل شاب فور الانتهاء من التعليم وكانت الدوله تتولي تعيين خريجي الجامعات والمؤهلات المتوسطة فور تخرجهم، فكان الشاب بمقدوره ان يحصل علي فرصة عمل علي اعتبار انه حق مكفول للجميع، وليس علي اساس المحسوبية او الرشوة كما كان ومازال يحدث حتي يومنا هذا. كانت مصر تعاني فقرا مدقعا، ليس بسبب نقص الثروات ولكن بسبب سوء توزيع الثروة علي فئات الشعب المختلفة، وكانت قضية الفقر تشغل حيزا كبيرا من تفكير عبد الناصر ولذلك فقد أولاها اهتماما يكاد يكون رئيسيا، لقد كانت مصر تملك ارضا خصبة وهبها إياها نهر النيل المتدفق بين جانبيها، وكانت تملك مقومات الصناعة، بالاضافة إلي أن موقعها المتميز بين طرق التجارة والتبادل الرئيسية في العالم وامتلاكها شريانا اساسيا للتجارة والملاحة وهو قناة السويس، فضلا عن امتلاكها تراثا حضاريا هائلا، وايدي عاملة ماهرة ومؤهلة وكل هذه العوامل كانت كفيلة بإحداث نهضة اقتصادية شاملة كان يطمح اليها عبد الناصر، ومن هنا كان التفكير في بناء السد العالي لأن هذه النهضة كانت تحتاج الي توافر عنصرين اساسيين وهما الماء اللازم للزراعة والكهرباء للصناعة. بدأ مشروع السد العالي بالاعتماد علي معونة الاتحاد السوفيتي، واستطاعت مصر أن تقيم قاعدة للصناعات الثقيلة، وتم استصلاح مليون فدان وزراعة سبعمائة الف فدان بشكل دائم بعد ان كانت تزرع مرة واحدة فقط في العام، وتمت زراعة القطن طويل التيلة، كما تم انتاج كميات هائلة من السمك من بحيرة ناصر ساهمت بشكل كبير في توفير غذاء شعبي للمواطنين. عاش الشعب المصري مع عبد الناصر حالة خاصة من الحب والالتفاف، وكانت شخصيته القوية والمحبة للشعب والوطن هي أكثر ما ربطه بأبناء شعبه، لأن ما يخرج من القلب يعرف طريقه الي القلب، وكان تكوينه الشخصي الباب الملكي لقلوب محبيه، فقد كان متواضعا وقويا وحازما في أن واحد، لم يستغل السلطة في تحقيق مكاسب شخصية أو ثراء علي حساب الشعب ولكنه كان يكتفي براتبه كرئيس جمهورية، وعندما توفاه الله لم يكن في حسابه البنكي سوي جنيهات معدودة، كان طعامه متواضعا ايضا فلم يكن يعرف من انواع الطعام إلا ماهو معروف لغالبية ابناء الشعب سواء كان خضارا مطبوخا وأرزا وسمكا وفقط، حتي ان كاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل داعبه ذات مرة بقوله ان هناك انواعا اخري من الطعام الشهي يمكنه تناولها، ولكنه رد عليه بابتسامة تعفف حملت معاني كثيرة، لم يسكن عبد الناصر القصور الرئاسية ولكنه فضل السكن في منزل منشية البكري المتواضع في الشكل والأثاث علي حياة القصور وعندما أرادوا عمل بعض التجديدات في المنزل تم نقله إلي أحد القصور وبعد عدة أيام طلب من معاونيه العودة إلي منزله لأنه لم يعتد سكني القصور، يقول الدكتور عبد العزيز كامل في وصف منزل الرئيس"قادني الصديق محمد احمد السكرتير الخاص للرئيس جمال عبد الناصر الي قاعة الاستقبال بمنزل الرئيس بمنشية البكري وبقيت فيها فترة قصيرة استعدادا للقائه، استرعت نظري لوحة زيتية تتصدر القاعة ويعلو مكانها علي جميع مافي القاعة من صور تذكارية طفلان صغيران تبدو عليهما مظاهر الفقر أقدام عارية، ثياب رثة، الطفلة جالسة والطفل الي جوارها يقدم اليها في براءة ووداعة بعض الثمار، عطية من فقير الي فقير تحمل انبل مافي النفس، وتقرأ فيها قول الله تعالي 'ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة' وقوله 'ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيرا'، وتحت اللوحة مجموعة من صور الزعماء الذين زاروا الرئيس في بيته، وتنتقل عيني بين صور الزعماء وصورة الطفل والطفلة.. صورة البراءة والايثار في مكانها من صدر قاعة الاستقبال في بيت الرئيس، وانظر الي الاثاث فلا تستوقفني الا بساطته والاحساس بأنه في حجرة عمل، كساكن هذا البيت يعمل دون توقف'. لقد كانت قرارات ناصر الثورية من تأميم قناة السويس وتطبيق قوانين الاصلاح الزراعي وبناء السد العالي والانحياز لصالح الفقراء والمهمشين هي الدافع الرئيس لحب الشعب والتفافه حول جمال عبد الناصر حتي انه عندما قرر التنحي عن الحكم عقب هزيمة يونيو عام 1967 من منطلق تحمل المسئولية، خرجت الجماهير عن بكرة ابيها تطالبه بالعودة الي الحكم، كان ذلك نابعا من حب وايمان حقيقيين بدور القائد، الذي بذل كل مافي وسعه فداء للوطن وهو ماأحس به الشعب فلم يحملوه المسئولية ولم يطالبوه بالابتعاد عن الساحة السياسية، ولكنهم أصروا علي مواصلة المشوار معه، وتم بالفعل اعادة ترتيب الاوراق في القوات المسلحة وبناء حائط الصواريخ وكان للفريق محمد فوزي وزير الحربية انذاك دور لايستهان به في هذا الامر، وهو ما أدي في نهاية المطاف الي نصر اكتوبر بعد ان استكمل الرئيس انور السادات الخطط العسكرية التي سحقت جيش العدو الذي لايقهر. وفي سبتمبر عام 1970 توفي الزعيم فخرجت الجماهير من كل محافظات مصر تنعيه ملتاعة لفراقه، وكانت جنازته المهيبة مشهدا سيظل ماثلا في الاذهان لعلاقة حب فطرية بين قائد أحب شعبه فاحبوه من قلوبهم.