صفارات الإنذار تدوي في نحو 20 مستوطنة وبلدة شمال إسرائيل والجولان    الونش يرافق بعثة الزمالك في السوبر الأفريقي قبل السفر إلى ألمانيا    دون إصابات.. السيطرة على حريق بجوار إدارة تعليمية في قنا    الأرصاد الجوية تحذر من نشاط رياح مثيرة للرمال والأتربة على المحافظات    وفاة مدير التصوير والإضاءة فاروق عبد الباقي.. موعد تشييع الجنازة    وزير المالية: نستعرض أولويات السياسة المالية لمصر فى لندن    تأملات في التسهيلات الضريبية قبل الحوار المجتمعي    تصل للحبس، محامٍ يكشف العقوبة المتوقع تطبيقها على الشيخ التيجاني    وزير التربية والتعليم يصل أسيوط لتفقد عدد من المدارس (صور)    موعد مباراة إشبيلية وألافيس في الدوري الإسباني والقنوات الناقلة    وزير التعليم العالي يهنئ العلماء المدرجين بقائمة ستانفورد لأعلى 2% الأكثر استشهادا    محافظ الجيزة يتفقد الوحدة الصحية بقرية الحيز بالواحات البحرية (صور)    التموين تنتهي من صرف مقررات سبتمبر بنسبة 85% والمنافذ تعمل اليوم حتى ال9    مفتي الجمهورية يتجه إلى موسكو للمشاركة في المنتدى الإسلامي العالمي ال20    خطبة الجمعة بمسجد السيدة حورية فى مدينة بنى سويف.. فيديو    سعر الدرهم الإماراتى اليوم الجمعة 20-9-2024 فى البنوك المصرية    "واشنطن بوست": اشتعال الموقف بين حزب الله وإسرائيل يعرقل جهود واشنطن لمنع نشوب حرب شاملة    ضبط شخصين قاما بغسل 80 مليون جنيه من تجارتهما في النقد الاجنبى    تشغيل تجريبى لمبنى الرعايات الجديد بحميات بنها بعد تطويره ب20 مليون جنيه    ليكيب: أرنولد قدم عرضًا لشراء نادي نانت (مصطفى محمد)    انقطاع المياه غدا عن 11 منطقة بمحافظة القاهرة.. تعرف عليها    الأنبا رافائيل: الألحان القبطية مرتبطة بجوانب روحية كثيرة للكنيسة الأرثوذكسية    انطلاق قافلة دعوية إلي مساجد الشيخ زويد ورفح    ضبط 4 متهمين بالاعتداء على شخص وسرقة شقته بالجيزة.. وإعادة المسروقات    «الداخلية» تنفي قيام عدد من الأشخاص بحمل عصي لترويع المواطنين في قنا    أول بيان من «الداخلية» بشأن اتهام شيخ صوفي شهير بالتحرش    وزير الإسكان يتابع استعدادات أجهزة مدن السويس وأسيوط وبني سويف الجديدة والشيخ زايد لاستقبال الشتاء    الخارجية الباكستانية: رئيس الوزراء سيشارك في الدورة 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة    وثائق: روسيا توقعت هجوم كورسك وتعاني انهيار معنويات قواتها    الأعلى للثقافة يحتفل بيوم الصداقة العالمى    خبير تربوي: مصر طورت عملية هيكلة المناهج لتخفيف المواد    «الإفتاء» تحذر من مشاهدة مقاطع قراءة القرآن الكريم بالموسيقى: حرام شرعًا    أزهري يحسم حكم التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين وطلب المدد منهم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 20-9-2024 في المنيا    محافظ أسيوط يدعو المواطنين لاستكمال إجراءات التصالح في مخالفات البناء    الهيئة العامة للرعاية الصحية: إطلاق ندوات توعوية في 6 محافظات ضمن مبادرة «بداية»    مستشفى قنا العام تستضيف يوما علميا لجراحة المناظير المتقدمة    خبيرة تغذية: الضغط العصبي والقلق من الأسباب الرئيسية لظهور الدهون بالبطن    عبد الباسط حمودة ضيف منى الشاذلي في «معكم».. اليوم    وزير الإسكان: طرح 1645 وحدة متنوعة للحجز الفوري في 8 مدن جديدة    تشكيل أهلي جدة المتوقع أمام ضمك.. توني يقود الهجوم    طريقة عمل البرجر فى المنزل بمكونات آمنة    «الخارجية الروسية»: الغرب تحول بشكل علني لدعم هجمات كييف ضد المدنيين    المتحدثة باسم حكومة جزر القمر: مهاجم الرئيس لم يكن فى حالة طبيعية    دعاء يوم الجمعة للرزق وتيسير الأمور.. اغتنم ساعة الاستجابة    «ناس قليلة الذوق».. حلمي طولان يفتح النار على مجلس الإسماعيلي    رابط خطوات مرحلة تقليل الاغتراب 2024..    شهداء ومصابون إثر استهداف سيارة بشارع البنات في بيت حانون شمال قطاع غزة    استطلاع رأي: ترامب وهاريس متعادلان في الولايات المتأرجحة    جرس الحصة ضرب.. استعدادات أمنية لتأمين المدارس    حرب غزة.. الاحتلال يقتحم مخيم شعفاط شمال القدس    عاجل.. موعد توقيع ميكالي عقود تدريب منتخب مصر للشباب    «البحر الأحمر السينمائي» يعلن عن الفائزين في النسخة الرابعة من تحدّي صناعة الأفلام    اليوم.. الأوقاف تفتتح 26 مسجداً بالمحافظات    ليس كأس مصر فقط.. قرار محتمل من الأهلي بالاعتذار عن بطولة أخرى    مصطفى عسل يتأهل لنصف نهائي بطولة باريس المفتوحة للإسكواش 2024    رئيس مهرجان الغردقة يكشف تطورات حالة الموسيقار أحمد الجبالى الصحية    رمزي لينر ب"كاستنج": الفنان القادر على الارتجال هيعرف يطلع أساسيات الاسكريبت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة يوليو.. تألق الإبداع.. وديمقراطية المعرفة
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 27 - 07 - 2012

لا يختلف اثنان علي أن النهضة الثقافية في الخمسينيات والستينيات هي واحدة من أهم منجزات ثورة يوليو، ولا ينكر الازدهار الثقافي والتألق الإبداعي في هذه الحقبة إلا جاحد أو جاهل.
فلقد تحولت القاهرة في ظل ثورة 23 يوليو إلي منارة للثقافة العربية، تبعث إشعاعاتها علي افريقيا وآسيا والعالم الإسلامي وبلدان العالم الثالث كافة.. وخرج العمل الثقافي لأول مرة من دائرة 'النخبة' وذوي الياقات المنشاة إلي دائرة 'الجماهير' وتحولت الثقافة من خانة الترفيه ومتعة التذوق الفردية إلي خانة الفعل الثوري، وصحب ذلك تطور في 'مفهوم' الثقافة النخبوي الفلسفي المنعزل عن الواقع والساكن في البرج الفلسفي العاجي ليصبح أكثر تعبيرًا عن 'أفكار ومعتقدات وطقوس وفنون الشعب' وتحول 'الفعل الثقافي' من مجرد مبادرات فردية وأهلية يقوم بها أهل 'الخير' إلي 'حق من حقوق المواطنة' تقوم به 'مؤسسات وطنية حديثة' تنظر إلي الثقافة كصناعة ثقيلة هدفها تحقيق إنسانية الإنسان.. ولقد أدي ذلك إلي حضور 'الثقافة' لأول مرة في تاريخ مصر في برامج التنمية و'الخطة القومية' للدولة التي أعدت العدة بالعلم والمعرفة لبناء 'مؤسسات الدولة الحديثة' وهو الأمر الذي كان علي رأس أولويات 'دولة يوليو' ولب مشروعها الثوري.. لذا أصبحت الثقافة علي رأس اهتمامات الدولة منذ أول وزارة للثقافة 'وزارة الإرشاد القومي' في الخمسينيات حتي قرار السادات بإطفاء المصابيح الثقافية بعد مايو 1971.
ولأن ثورة 23 يوليو لم تكن نبتًا شيطانيًا في تاريخ مصر الحديث وجاءت كحلقة من حلقات الكفاح الوطني الممتد منذ ثورة عرابي مرورًا بكفاح مصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول والمد الثوري الاجتماعي في الثلاثينيات والأربعينيات كانت الثقافة أيضًا امتدادًاللكفاح الوطني نفسه، ونبتًا طبيعيًا في تربة الثقافة الوطنية التي رعاها الرواد فنمت وترعرعت وازدهرت طوال فترات الكفاح الوطني الممتد لتتألق في ظل ثورة يوليو ويصبح هذا الإبداع المتميز حلقة من حلقات 'تطور الثقافة الوطنية' والفعل الثقافي الوطني الذي كان سدي ولحمة الكفاح الوطني نفسه.. فلقد كان مثقفو الثلاثينيات والأربعينيات هم وقود الحركة الوطنية، ولم ينعزل أي منهم عن الهم الوطني، ولا حاد أحد منهم عن أهداف الوطن وأحلامه، فلقد كان العقاد والمازني وشكري وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد أمين، وفريد أبو حديد ومصطفي مشرفة والريحاني وبديع خيري وعبد الوهاب، وأم كلثوم، وزكريا أحمد ومختار ومحمد ناجي وراغب عياد ورمسيس يونان، وعبد الرحمن الخميسي وزكي طليمات ورامي، وبيرم ومحمود حسن إسماعيل وغيرهم وغيرهم من مبدعي مصر عبر مسيرة الكفاح الوطني، كان هؤلاء جميعًا هم الذين صنعوا بإبداعاتهم وأفكارهم واجتهاداتهم ملامح 'الثقافة الوطنية' القائمة علي أركان: العقل والمعرفة والحرية والعدالة الاجتماعية، ولقد شكلت أفكارهم وإبداعاتهم سدي ولحمة الفكر العربي المعاصر مع زملائهم من رواد العقل العربي في الشام وبغداد والمغرب العربي، بل لقد تبلورت 'عروبة الثقافة' في القاهرة قبل أن تظهر 'الاتجاهات القومية في السياسة' في الخمسينيات.
وتحولت مجلتا الرسالة والثقافة في الثلاثينيات والأربعينيات إلي منبرين قوميين ينشران الثقافة العروبية وعلي صفحاتهما كتب محمد كردعلي، والزهاوي وعلي المغربي، وخليل مطران، والشابي، وعلي أحمد باكثير وطه الراوي وغيرهم من الكتاب العرب مطالبين بوحدة الثقافة العربية وتوحيد المناهج الدراسية بين الأقطار العربية.. بل سارع مثقفو مصر وعلماؤها بالسفر إلي العواصم العربية لتأسيس المعاهد والمدارس العليا والجامعات في الشرق والغرب، وأسس طه حسين في أواخر الأربعينيات مشروعه الضخم للترجمة في الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية التي أصبحت فيما بعد منظمة الثقافة والتربية العربية، بشكل عام لقد رسخ هذا الجيل من المثقفين مشروع 'العروبة الثقافية' الذي صعد وتنامي في مصر بعد احتلال إسرائيل لفلسطين وقيام حرب 1948 هذا الجيل استطاع أيضًا أن يبلور القيمة الثقافية العليا في الوطن العربي بأكمله ورسخ، كما أسلفت، مبادئ العدل والحرية والعقل وحق المعرفة في الوجدان الوطني.
فتحي رضوان والحداثة الثورية
هذا المفهوم الوطني للثقافة شكل إيقاع الحياة الوطنية في مصر ورسم ملامح مشروعها الثقافي فلم يكن 'الضباط الأحرار' - كما يشاع - مجرد 'عسكر' يملؤهم الصلف ولا يعرفون غير الانضباط ولغة الأوامر، كما أنهم لم يكونوا ممن يقضون أوقات فراغهم 'خارج المعسكر' في اللهو والمجون، بل كانوا جزءًا لا يتجزأ من 'الطبقة الوسطي' المصرية التي قادت الحياة الوطنية في مصر منذ منتصف الثلاثينيات وكانوا الأكثر قراءة واطلاعًا وتذوقًا للفنون الحديثة فهم الذين يذهبون إلي السينما كل أسبوع ويحضرون حفلات أم كلثوم، ويقتنون المجلات الثقافية الأسبوعية والشهرية، ويتابعون أحدث ما يصدر من روايات ومسرحيات.. بل لقد كان عبد الناصر نفسه من قراء توفيق الحكيم والأدب العالمي ومن هواة التصوير الفوتوغرافي والسينمائي وكان من رواد دور السينما يتابع أحدث الأفلام العالمية ويهوي الاستماع للموسيقي، وصادق الصحفيين المشاهير مبكرًا وتقلب بين التنظيمات السياسية التي كان يقودها المثقفون، أيضًا كان يوسف السباعي كاتبًا وروائيًا منذ ما قبل الثورة، وكذلك كان يوسف صديق شاعرًا ومثقفًا تقدميًا، وكان ثروت عكاشة مترجمًا وكاتبًا نشر كتاباته باسم مستعار قبل الثورة في العديد من المجلات والصحف.. لم يكن الضباط الأحرار إذن بمعزل عن الحركة الثقافية وإنجازاتها، بل لقد شكلت هذه الحركة الثقافية وعيهم وأحلامهم وألهبت وجدانهم، ولأن عبد الناصر كان يعي دور الثقافة في 'تحديث المجتمع' ولأن مشروع يوليو الحداثي، كان يؤمن بضرورة إنشاء 'المؤسسات العصرية الحديثة' وهذا مفهوم ثقافي بالأساس، فلقد أوكل للمثقف والمبدع الكبير شيخ المجاهدين فتحي رضوان أمر تأسيس أول 'مؤسسة ثقافية' للثورة التي سميت باسم 'وزارة الإرشاد القومي' ورغم أن هذا الاسم استفز قطاعًا من المثقفين ونسبوا إليه نوعًا من الوصاية علي الأدباء والمثقفين إلا أن هذه الوزارة هي التي وضعت 'حجر الأساس' لأول مؤسسة حديثة للثقافة والإعلام في مصر.
ولقد وضع فتحي رضوان 'الملامح الأساسية' لهذه المؤسسة مع كوكبة من مثقفي مصر وكتابها مستفيدًا من التجارب الدولية في إنشاء المؤسسات الثقافية ثم وضع خطة طموحة لتحديث 'الثقافة' تقوم علي ركائز ثلاث:
أولا: إعادة هيكلة الإعلام وتطوير الإذاعة لتواكب أحدث النظم والتقنيات لتصبح أداة معرفية ثورية تربط المواطن بالأحداث والأفكار في مصر والوطن العربي والعالم، وتصبح منارة ثقافية 'راقية' وثورية في الوطن العربي فضلاً عن دوره في تطوير البرنامج العام 'الإذاعة المصرية' أنشأ محطتين جديدتين:
الأولي: هي 'صوت العرب' التي قامت بدور 'المضخة' 'الماصة الكابسة' حيث تمتص الإبداعات والأفكار العربية من عواصم الوطن العربي كافة لتعيد ضخها إلي الوطن العربي فأصبحت المنارة العربية للثقافة والفكر والنضال الثوري من المحيط إلي الخليج.
والثانية: هي محطة 'البرنامج الثقافي' أو ما سمي بالبرنامج الثاني.. الذي مثل جسرًا معرفيًا يربط المواطن العادي بمختلف الأفكار الإنسانية قدم عبره مثقفون كبار الإبداعات العالمية من مسرح وموسيقي وشعر ورواية وأفكار فلسفية كبري.. كما قدمت إبداعات الأجيال الجديدة من الكتاب والمبدعين وشارك في تقديم ذلك كله كوكبة من المثقفين من بينهم د.علي الراعي، ود.حسين فوزي ومحمود حسن إسماعيل وزكي طليمات، وبهاء طاهر، ومحمود مرسي وغيرهم، ولقد شكلت هذه المحطة فكر ووعي أجيال عربية عديدة وأسهمت في تكوينهم الثقافي بشكل فعال.
وأصبحت الإذاعة وفق خطته 'صوت الثورة' العربية الثقافي وأسهمت في نمو الوعي القومي والمعرفي في الوطن العربي من المحيط إلي الخليج.
ثانيًا: جمع شتات المؤسسات الثقافية وإعادة هيكلتها.. فلقد كانت المؤسسات الثقافية موزعة علي الوزارات والإدارات المختلفة فلقد كان المسرح القومي والأوبرا يتبعان وزارة الاشغال وكذلك الآثار الفرعونية.. أما الآثار الإسلامية فكانت تتبع وزارة المعارف والأوقاف.. وتتبع الرقابة لوزارة الداخلية.. كما تتبع المكتبات العامة وزارة البلديات 'الحكم المحلي' ولم تكن هناك أي فرق للفنون الشعبية.. لذا فلقد أسس مصلحة الفنون واختار لها الكاتب المبدع يحيي حقي لتلم أشتات الفنون وتخطط لنهضة فنية ثقافية حقيقية، ولقد استطاع يحيي حقي أن يؤسس أول مؤسسة فنون مصرية حديثة تضم المسارح والفنون الشعبية والإبداع وحشد لها المثقفين والمبدعين فأنشأ أول فرقة قومية للفنون الشعبية.. كما أنشأ مركز الفنون الشعبية العلمي بهدف جمع وتوثيق فنون الشعب من أزياء وحرف وغناء ورقص وأمثال شعبية وتم تدريب الباحثين علي أحدث نظم الجمع والتوثيق واستطاع يحيي حقي أن يرتقي بالفنون الشعبية والمسرح والموسيقي والأوبرا لتصبح أكثر تعبيرًا عن وجدان الأمة وقيمها العليا.
أول أرشيف سينمائي
ولم تتوقف جهود فتحي رضوان عند مصلحة الفنون فقط بل امتدت إلي تطوير قوانين الرقابة الفنية ومن خلال هذه القوانين استطاع أن يؤسس أول أرشيف سينمائي عندما فرض علي كل شركة إنتاج أن تودع نسخة من فيلمها في أرشيف الرقابة، كما أسس أول أرشيف للسينما التسجيلية عن طريق 'وحدة السينما' بمصلحة الاستعلامات التي وثقت المشاريع الثورية العملاقة ووفر لها كبار المخرجين الذين سجلوا بناء المصانع، وتحويل مجري نهر النيل، ومعارك بورسعيد، وبناء السد العالي، وغيرها من مشروعات عملاقة.. فحفظ تاريخ الكفاح الشعبي في الذاكرة السينمائية ليشكل أول موسوعة سينمائية لتاريخ الوطن.
فضلا عن ذلك ساهم فتحي رضوان مع وزارة التربية والتعليم في تأسيس مشروع الألف كتاب الذي كان هدفه ترجمة العلوم والإبداعات الفكرية والفلسفية بالإضافة إلي دوره في تأسيس موسوعة الشعب الثقافية ودوره الفعال في تأسيس المجلس الأعلي للفنون والآداب الذي يعد أول مؤسسة ثقافية للتخطيط لمستقبل الثقافة في مصر، والذي أنشئ علي غرار مجمع اللغة العربية مستقلاً عن الوزارات وحشد له النابغين من كبار المثقفين والكتاب وأوكل لهذا المجلس بالإضافة إلي دوره في التخطيط الثقافي منح جوائز الدولة، ومنح التفرغ فضلا عن تنشيط الحركة الثقافية والعلمية عبر لجانه النوعية التي كان يديرها كبار المثقفين والشعراء والكتاب بشكل علمي ومستقل، وهو المجلس الذي ألغاه السادات وأنشأ بدلا منه المجلس الأعلي للثقافة الذي أوكل إليه الأدوار نفسها ولكن من خلال أعضاء يمثلون الموظفين الحكوميين وقلة من المثقفين المدجنين لتصبح الحركة الثقافية 'مدجنة' في حظيرة النظام وهو الأمر الذي أدير بكفاءة عالية في عهد مبارك علي يد وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني - فتدهورت الثقافة وأصبحت مجرد ضجيج احتفالي ولا طحن.
ولعل أهم ما قدمه فتحي رضوان للثقافة في وزارته كان تأسيس مجلة 'المجلة' بعد انتصار 1956 في يناير 1957 لتصبح منارة للمعرفة والعقل والإبداع الحر منذ أن أسسها حتي أغلقها السادات عام 1971.
الجامعة الشعبية
ثالثاً: إنهاء عصر مركزية الثقافة.. ونشر المعرفة خارج العاصمة.. وهو ما يعد إنجازاً شعبياً وثورياً غير سبوق.. وخروج من أسْر 'الثقافة' النخبوية التي تمركز بسببه الفعل الثقافي في القاهرة والإسكندرية طوال العهد الملكي بينما حُرمت القري والنجوع من أي خدمة ثقافية صحيح أن بعض الفرق المسرحية كانت تعرض مسرحياتها خارج القاهرة ولكن كان ذلك مجرد جهود فردية وموسمية، غير مخططة.. ولكي يتم وصول الخدمة الثقافية إلي كل مواطن، أعاد فتحي رضوان هيكلة 'الجامعة الشعبية' التي أسسها أحمد أمين أواخر الأربعينيات وطور أداءها وكوادرها ليصبح لها فرع في كل محافظة وهي المؤسسة التي تطورت وأصبحت فيما بعد 'الثقافة الجماهيرية' والتي قدمت عبر 'مديريات الثقافة' في الأقاليم أول مشروع ثقافي شعبي لاكتشاف المواهب وصقلها وتدريبها لتقدم فيما بعد إبداعاتها لأبناء مصر في المحافظات كما ألزم فرق الدولة الموسيقية والمسرحية والشعبية بتقديم عروضها في المحافظات كافة فضلاً عن تجول 'ميكروفون' الإذاعة وبرامجها المميزة بين المحافظات لتحقق أكبر قدر من الوعي والمعرفة والثقافة بين ربوع مصر.
بشكل عام استطاع فتحي رضوان منذ 1953 حتي 1958 أن يضع اللبنة الأولي للعمل الثقافي المؤسسي وترسيخ مفهوم 'الثقافة الشعبية' وتحقيق 'حق المعرفة' الدستوري لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وعلي هذه اللبنات الأولي شيد 'البناء' العظيم ثروت عكاشة 'المشروع الثقافي المصري الحديث، وهو المشروع الذي أسهم في استيعاب جهود وإبداعات أطراف الحركة الثقافية والإبداعية بمختلف ألوان طيفها ليؤسسوا 'الثورة الثقافية' في الخمسينيات والستينيات..
الصناعة الثقافية الثقيلة
وفي الوقت الذي كان يغني فيه عبد الحليم حافظ من كلمات صلاح جاهين للعامل والفلاح والتصنيع وينادي عبد الناصر بتحويل مصر من مجتمع زراعي لمجتمع صناعي حديث.. كان ثروت عكاشة وسط المبدعين الكبار يشيد أسس الصناعة الثقافية الثقيلة' فلقد تسلّم المؤسسات الجنينية من فتحي رضوان وهي مشتعلة بالحماس والأمل بيطورها ويجعلها أكثر حداثة وأكثر قدرة علي صناعة الثقافة وتفعيل حق المعرفة لكل مواطن..
فلقد حول مصلحة الفنون إلي مؤسسة السينما والمسرح والموسيقي، وأنشأ المركز القومي للسينما وأكاديمية الفنون وأركسترا القاهرة السيمفوني وفرقة الأوبرا المصرية، وفرقة الباليه، وأولي مؤسسات النشر القومية التي عنيت بنشر إبداعات الكتاب المصريين والعرب والعالميين وأعاد تنظيم إدارة المجلات التي علي إصدار مجلة المجلة، والفكر المعاصر، والفنون الشعبية ومجلة الشعر، ومجلة القصة، وغيرها من المجلات التي أغلقها السادات بعد انقلاب مايو..
ولقد ازدهرت حركة النشر عبر هذه المطبوعات وفتح الرواد علي صفحاتها معاركهم الفكرية ومارسوا اجتهاداتهم الإبداعية وأسسوا الاتجاهات الطليعية فظهرت إبداعات صلاح عبد الصبور وحجازي وفوزي العنتيل، ومحمود حسن إسماعيل وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب سرور، وصلاح چاهين وفؤاد حداد والأبنودي ونعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوي وسيد حجاب ودارت معارك القصيدة الجديدة، ضد التقليدية، وكتبت الدراسات حول المسرح الطليعي والسينما الثورية وناقش المفكرون المصريون والعرب إبداعات الوجودية والماركسية والواقعية الإشتراكية والحداثة.
مواهب تتألق
في هذا المناخ الزاخر بالمعرفة تألقت مواهب الكتاب المبدعين الذين أسسوا نهضة الستينيات الثقافية فكتب صلاح چاهين تجاربه الجديدة في شعر العامية وهي التي أسست مع كتابات فؤاد حداد للذائقة الشعرية الجديدة، وعبرت عن معارك وأحلام الوطن وتغنت بها أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وظهر جيل الموسيقيين الجديد كالموجي وكمال الطويل، وبليغ حمدي وعلي إسماعيل الذين قدموا أعمالا جديدة وثورية وصاغ عبد الوهاب من خلال هذه الثورة الشعرية الجديدة أجمل ألحانه لعبد الحليم ووردة ونجاح سلام ونجاة ليصنعوا جميعاً أنشودة الوطن الجميلة..
في هذا المناخ الإبداعي الفني أسس مسرح الجيب وعرفت الحياة المسرحية إبداعات نجيب سرور وكرم مطاوع، وسعد أردش كما عرفت الشاشة إبداعات صلاح أبوسيف ويوسف شاهين السينمائية وعرضت الفرق العالمية إبداعاتها في القاهرة سواء في الموسيقي أو الباليه أو الأوبرا أو المسرح.. زخم ثقافي، وتألق إبداعي يتنامي ليصنع حالة ثقافية معرفية إبداعية غير مسبوقة تتداخل فيها الأغنية بالشعر بالأداء المسرحي بالإبتكار السينمائي لتصنع سيمفونية ثورية من مقام حب الوطن ولم يتوقف اهتمام ثروت عكاشة عند المسرح والموسيقي والنشر والفنون الشعبية بل امتد إلي المتاحف الفنية والحرف الشعبية فتم تدعيم المتاحف القومية والفنية ومدها بأحدث النظم.
كما أسس مشروع 'الحفاظ علي الحرف الشعبية' في وكالة الغوري للحفاظ علي هذه الفنون من الاندثار ونظم إدارة التفرغ ليصبح الفنان قادراً علي الإبداع الحر، ولا يخضع فنه لمتطلبات السوق فيبتكر ويجرب ويطور من أدواته، ويطلق لخياله وموهبته العنان، ودعم هذا المشروع بمشروع 'مقتنيات الدولة' لتشتري الدولة إبداع الفنانين الجديد الطليق من 'قيود السوق' ليصبح الفنان أكثر حرية في الإبداع والتجديد والتجريب.. كما وجه التفرغ إلي المشروعات القومية ففي أتون معركة بناء السدالعالي نظم رحلات للفنانين والكتاب ليعيشوا الفعل العظيم وينصهروا معه، ويستلهموه في أعمالهم.. كما نظم رحلات مماثلة إلي قري النوبة قبل أن تغرقها بحيرة السد لتسجيل معمارها الفريد واستلهام ثقافتها المميزة..
لم يتوقف إنجاز عكاشة الثوري عند هذا الحد بل قام بتوجيه 'نداء عالمي' لإنقاذ آثار النوبة ومعابد فيله وأبي سمبل ونقلها فتكاتف العلماء مع اليونسكو مع الخبرات المصرية وتم إنقاذ هذه الآثار ونقلها في أكبر ملحمة فنية هندسية معمارية..
ولقد كلف ثروت عكاشة النحات المصري الرائد أحمد عثمان بالإشراف الفني علي نقل أبي سمبل بعد أن وافقت اللجان الفنية والأثرية باليونسكو علي مشروعه الفذ، وتم نقل معبد أبي سمبل تحت إشرافه، وهو عمل جبار قام به هذا الفنان العملاق دون أن يكرمه أحد حتي الآن..
كما استطاع ثروت عكاشة أن يعيد تنظيم هيئة الآثار المصرية ويضم إليها الآثار الإسلامية والقبطية والمصرية القديمة تحت إشراف لجنة علمية متخصصة لتطويرها والحفاظ عليها وترميمها وإستثمار عائدها في الحفريات الجديدة.
منارات الثقافة الجماهيرية
وكما اهتم فتحي رضوان بالثقافة الجماهيرية ووضع اللبنات الأولي لتأسيسها فلقد وضع ثروت عكاشة خطة عصرية طموحة لتحديثها وتحويلها إلي مؤسسة أكثر فعالية وأكثر قدرة علي تقديم 'الخدمة الثقافية' في القري والنجوع فأسس قصور الثقافة العصرية التي بنيت خصيصاً لتضم الأنشطة الثقافية وتوفر الإمكانات المادية لاكتشاف المواهب الحقيقية وتصبح منارات ثقافية تنشر المعرفة والعقل والإبداع، ولقد شهدت قاعات الثقافة في محافظات مصر قاطبة محاضرات في مختلف مجالات المعرفة لأعلام مصر من مختلف التخصصات كما أسهمت في اكتشاف المواهب والنجوم في مجالات الإبداع المختلفة.. وحققت 'حق المعرفة' الدستوري لكل مواطن في كافة أرجاء الوطن.. وهو من أهم ركائز 'ديمقراطية المعرفة' التي أدت لتألق الإبداع وازدهاره سعياً إلي تكوين المواطن 'المتسائل' الذي يفكر بعقله.. في مواجهة الثقافة الرجعية التي كانت تؤسس لنتاج المواطن المتساهل المتواكل..
هذا المفهوم بالتحديد 'أقصد أبناء الإنسان المتسائل العقلاني' كان هو الهدف الحقيقي لثقافة يوليو.. وهو المفهوم الذي ضُرب بقوة منذ قيام السادات بانقلابه علي الثورة في 1971 لتسود ثقافة الاستهلاك والتساهل والتواكل لتصبح مصر مهشمة خارجة عن دورها الطليعي وتابعة للغرب وهو نفس المنهج الذي سار عليه 'مبارك' ومؤسساته لمزيد من التبعية والإستبداد الذي أنتج مؤسسة الفساد القبيحة التي قتلت الإبداع والعقل..
تلك المؤسسة التي أفسدت الحياة وقتلت الكرامة والعدالة والحرية.. وقامت ضدها ثورة 25 يناير لتحقيق مجتمع الحرية والتقدم والحداثة التي لن تتحقق إلا بديمقراطية المعرفة التي هي الطريق الوحيد لتحقيق إنسانية الإنسان وانعتاقه من أسر الظلم والاستبداد وبالتالي يتألق الإبداع ونصبح أكثر قدرة علي تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة مهما طال الوقت.. ففجر الحرية قادم لا محاله وليس ببعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.