ماذا بعد استبعاد 'سليمان' و 'الشاطر'و'أبوإسماعيل'و'مرتضي' و'نور'؟! هي بالتأكيد لحظة فارقة في تاريخ مصر وبحسب تعبير الدكتور رفعت لقوشة فإنها في انتظار 'مستقبل قد يبحر بها إلي تاريخ، أو مجهول قد يدفع بها إلي خارج التاريخ'. هي لحظة فارقة بكل المعايير .. وهي تستدعي التحلي بأعلي درجات التفكيرالعقلي، والتجرد، والتحرر من الأنانية.. وتتطلب تضافر جهود كل القوي السياسية والشعبية والحزبية لصيغة تفاهمية تقوم علي مبدأ 'التنازلات المتبادلة'.. فما نشهده، وما يدور حولنا، وما يعتمل علي الأرض.. يعيدنا إلي التاريخ القديم، حين كانت مصر في مرحلة تحول في العام 5081.. يومها كانت مصر عند لحظة فارقة، وحين جاء 'محمد علي باشا' ومن حوله 'السيد عمر مكرم' وآخرون من رجالات مصر، استطاعوا استغلال اللحظة وبناء دولة كبري أبحرت في التاريخ.. وهو الأمر نفسه الذي تجسد في ثورة 32 من يوليو لعام 2591.. حين حمل 'جمال عبدالناصر' ورفاقه أرواحهم علي أكفهم لينهضوا بمصر من كبوتها.. ونحن في هذا الظرف نحتاج إلي نوعية هؤلاء الرجال الذين يعملون لصالح مصر وليس لصالح أنفسهم. لقد جاء قرار اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية مساء السبت الماضي باستبعاد عشرة من المرشحين علي المنصب الرئاسي يتقدمهم اللواء عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق والمهندس خيرت الشاطر النائب السابق لمرشد جماعة الإخوان المسلمين والسيد حازم صلاح أبوإسماعيل والدكتور أيمن نور مرشح حزب غد الثورة والمستشار مرتضي منصور ليدفع بالأوضاع خطوة نحو التهدئة بعد أيام ساخنة عاشت البلاد وطأتها في الأيام الماضية.. وبات السؤال الذي يطرح نفسه بعد قرار اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية: من رئيس مصر القادم؟.. خاصة في ظل انحسار المنافسة بين عدد محدود من المرشحين الرئيسيين والبارزين. قبل قرار اللجنة العليا للانتخابات كانت مصر قد شهدت أحداثًا وتطورات متسارعة.. حيث سارت الأمور بشكل مندفع، وغير مسبوق.. فالتهب الشارع مجددًا، واحتشدت الملايين في ميادين مصر وشوارعها، وتقاذف أهل السياسة الاتهامات، التي تطايرت ولم تستثن أحدًا، بل بدا المشهد السياسي والشعبي، وكأن الجميع يتربص بالجميع، لنعود مجددًا إلي دائرة الصفر، وكأننا لم نقطع شوطًا واحدًا علي صعيد الديمقراطية التي أفرزت برلمانًا بغرفتيه 'الشعب والشوري' في انتخابات لا يجرؤ أحد علي التشكيك في نزاهتها.. وهي خطوة كنا ننتظر أن تكتمل بخطوات أخري، تقودنا إلي الانتخابات الرئاسية، التي يكثر الجدل هذه الأيام حول إمكانية إجرائها من عدمه، خاصة بعد حكم القضاء الإداري، الذي وضع المجتمع والبرلمان في مأزق حين رفض الاعتداد بتشكيل اللجنة التأسيسية المنوط بها وضع الدستور، وهو ما أعادنا إلي الخلف، ودفع بتساؤلات شتي حول مدي قدرة البرلمان علي إعادة تشكيل 'التأسيسية' وفق القواعد القانونية التي أقرها حكم القضاء الإداري، وهو ما يدفع أيضًا إلي التساؤل حول دور وصلاحيات رئيس الجمهورية المقدمين علي انتخابه بعد أسابيع قليلة، بل مدي تأثير كل ما يجري علي انتهاء الفترة الانتقالية المقررة نهاية يونيه المقبل. مآزق متعددة تفجرت خلال الأيام والأسابيع الأخيرة، كان أحد أسبابها محاولة البعض الاستئثار بالأغلبية لإقرار قوانين تتصادم مع واقع الدستور، بل تفضي إلي أوضاع غير مستقرة في البلاد.. فالذين دعوا إلي قانون العزل السياسي، وإن كنا نتشارك معهم في أهدافهم حول استبعاد الفلول من الترشح، إلا أن الطريقة التي أُخرج بها هذا القانون قد أصابها العوار الدستوري كما أصاب تشكيل اللجنة التأسيسية وهو ما سبق أن حذرنا منه مرارًا وتكرارًا. فنحن الآن أمام مأزق الانتخابات الرئاسية، وهي انتخابات تمت الدعوة إليها دون أن تقترن بصلاحيات محددة ومعلومة للرئيس المنتخب، وهذا مأزق قد يذهب إلي حد الطعن في شرعية انتخابه، ويتأكد هذا البعد في المأزق من أنه قد بات علي وجه اليقين أن الدستور الجديد لن يتم إعداده أو الاستفتاء عليه قبل موعد الانتخابات الرئاسية، كما أن التعديل الذي تم إدخاله علي قانون مباشرة الحقوق السياسية وتم بمقتضاه النص علي منع بعض رموز النظام السابق من الترشح، يقف أمام خيارات صعبة: فإما أن يتم عرضه علي المحكمة الدستورية العليا لتقول كلمتها قبل إعلان الأسماء النهائية للمرشحين في السادس والعشرين من إبريل الجاري، حيث ينبغي أن يأتي حكم الدستورية في هذه الحالة قبل هذا الموعد. وإما أن يوافق عليه المجلس الأعلي للقوات المسلحة ولكن في هذه الحالة سوف تتأزم الأمور إذا لم تأت هذه الموافقة مقترنة بفتوي المحكمة الدستورية العليا. أما إذا صدر القانون من المجلس الأعلي للقوات المسلحة تحت الضغوط ودون عرضه علي المحكمة الدستورية العليا، فنحن هنا أمام قانون غير دستوري يتطلب لجوء مَنْ أضيروا إلي القضاء الإداري للطعن في هذا القانون تمهيدًا لعرضه علي المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدي دستوريته. وفي حال صدور حكم في الطعن لصالح الطاعنين، فإن الأمر سينتهي إلي موقف شديد الارتباك. وفي ضوء كل ذلك فإن المجلس الأعلي للقوات المسلحة يبدو في أحد أصعب مواقفه للتعامل مع هذا القانون.. وهو موقف قد يتأثر بالتطور الأخير بعد صدور قرار اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية الذي تم بمقتضاه استبعاد اللواء عمر سليمان ضمن آخرين، باعتباره كان السبب الرئيس وراء لجوء البرلمان لإصدار مثل هذا القانون. وعلي هذا فالمجلس الأعلي للقوات المسلحة من المقرر أن يقوم بتسليم السلطة للرئيس المنتخب في الثلاثين من يونيه المقبل، وفي هذه الحالة سوف يجد نفسه في موقف أكثر صعوبة إزاء رئيس غير معروفة صلاحياته، لأنه من المستحيل إعداد الدستور والاستفتاء عليه في الفترة المتبقية من الفترة الانتقالية، وفي هذا يري بعض الخبراء والقانونيين أنه من المهم سلوك أحد السبل القانونية لتجاوز هذا المأزق، ويتطلب ذلك بحسب هؤلاء الارتكان إلي رئيس مؤقت بصلاحيات محددة يتسلم مهام السلطة من المجلس الأعلي للقوات المسلحة بعد انتخابه بالطريقة الشرعية والمناسبة، علي أن تكون مهمة الرئيس المؤقت السهر علي إعداد الدستور، ويمكنه في حالة ما إذا فشل البرلمان في إعادة تشكيل اللجنة التأسيسية، أن يتولي هو تشكيلها، بحيث تعد الدستور خلال الفترة المؤقتة التي لا تتجاوز عامًا أو عامين، تجري بعدها الانتخابات علي المقعد الرئاسي، في ظل حالة من التراضي بين جميع القوي والأطياف السياسية. وهنا يبدو السؤال المهم، بحسب هؤلاء الخبراء والقانونيين: ماذا لو رفض مجلس الشعب فكرة الرئيس المؤقت؟ هنا لابد من إدراك أن الدستور الجديد لن يتم الانتهاء منه قبل دورة الانتخابات الرئاسية المقبلة.. وبالتالي يصبح علي البرلمان في حال رفضه هذا الاقتراح أن يطلب منه تقديم تصوره لكي يتم انتخاب رئيس بدون صلاحيات مسبقة، خاصة أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة عندما حدد مواعيد انتخابات الرئاسة، وتسليم السلطة، كان يحددها في إطار ينتهي من اعداد الدستور الجديد قبل موعد الانتخابات الرئاسية، وهو غير مسئول عن التأجيل الذي جري لإعداد الدستور لأسباب لا دخل له فيها. وهنا يتعين علي البرلمان في حالة رفض تلك الفكرة والكلام للخبراء والقانونيين إبلاغ المجلس الأعلي للقوات المسلحة والشعب المصري، والذي من المفترض أن يتوجه لصناديق الانتخاب، ويطلعه بتصوراته للتداعيات المتوقعة علي انتخاب رئيس بلا صلاحيات مسبقة ومدي مشروعية ذلك. وفي هذا الإطار أطلق بعض المرشحين للرئاسة والشخصيات العامة وفي مقدمتهم: المستشار هشام البسطويسي المرشح للرئاسة عن حزب التجمع اقتراحًا يدعو فيه لتشكيل مجلس رئاسي، وهو اقتراح وتصور تثار من حوله العديد من الالتباسات.. فالسلطة لدي المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحسب ما هو متعارف عليه خلال الفترة الانتقالية هي وديعة يقوم بتسليمها لصاحبها الشرعي، وهو الرئيس المنتخب، وهو ينبغي أن يكون منتخبًا، سواء كان مؤقتًا أو دائمًا.. أما المجلس الرئاسي فلن يكون منتخبًا بطبيعة الحال.. وبالتالي فمادام لم ينتخبه أحد، فلن يكون الصاحب الشرعي للوديعة ليتسلمها من المجلس الأعلي للقوات المسلحة.. وهنا من المفترض أن يكون رئيس الجمهورية المنتخب، سواء كان مؤقتًا أو غير مؤقت، في وضع القائد الأعلي للقوات المسلحة، وفي حال وجود مجلس رئاسي لم ينتخبه أحد، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: من سيكون القائد الأعلي للقوات المسلحة؟.. فهل ستنتقل صلاحيات القائد الأعلي للقوات المسلحة إلي المجلس الرئاسي بكامله، أم سيحدث نوع من تنازع الاختصاصات؟ بل لمن ستكون الغلبة؟.. ومن هنا يبدو الالتباس كاملا في هذا المقترح. وفي هذا الإطار يبدو من المهم الإشارة حسب ما يري بعض الخبراء والقانونيين إلي أن فكرة اختيار رئيس مؤقت تقضي علي الهواجس لدي كل الأطراف، خاصة مع إدراك كل طرف أن انتخاب رئيس بصلاحيات غير محددة سوف يفضي إلي تمتعه بصلاحيات شبه مطلقة يمكن أن تستخدم ضد الأطراف والقوي الأخري.. وبالتالي يبدو الصراع في هذه الحالة أشبه ب'صراع حول الكرسي'.. كل يسعي، إما لاستخدام الكرسي ضد الآخر، أو ليحمي نفسه من الآخر.. ومن هنا تزداد الهواجس والمخاوف، والتي سرعان ما تتبدد إذا كان الأمر يدور حول رئيس مؤقت بصلاحيات معروفة سلفًا.. ولعل ذلك أيضًا هو ما دفع أنصار بعض المرشحين لحصار لجنة الانتخابات الرئاسية خلال الأيام الماضية، في تصرفات بدت استعراضية، وهو ما ينذر بتطور مثل هذه التصرفات في الفترة المقبلة؛ لأنه إذا ما تمادت، وتصاعدت عمليات الحشد من الأطراف المناصرة لكل مرشح، خاصة من المرشحين الذين تم استبعادهم وهم: الشيخ حازم صلاح أبوإسماعيل والمهندس خيرت الشاطر. والذين قررا الطعن أمام اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية علي قرار إستبعادهما. وقبل القرار الأخير أيضًا كاد المجتمع ينزلق إلي هوة سحيقة بفعل تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية، وما تضمنه من عزل بعض رموز النظام السابق، حيث دار الجدل حول توقيت العزل السياسي. فالعزل السياسي كان يمكن أن يبدأ في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، غير أن الأمور لم تحدث علي هذا الصعيد، بل إن الدكتور 'عصام شرف' وزير النقل الأسبق اختاره الثوار رئيسًا للوزراء ومرشحًا للمنصب من قلب ميدان التحرير، وهو ممن عملوا مع النظام السابق، فلو كان العزل السياسي بدأ من المنبع، كنا سنتفادي مثل هذه المشاهد، غير أن المياه اختلطت في مجري النهر، وحين وصلنا إلي المصب بات من الصعب قبول منطقية الحديث عن العزل السياسي، خاصة أن قانون العزل جاء بشكل يبدو 'مشخصنًا' ويستهدف شخصًا بعينه.. بل أن الأمر يتجاوز كل ذلك، فقبل القرار الأخير للجنة الانتخابات كان لدينا ثلاثة مرشحين علي المنصب الرئاسي عملوا مع النظام السابق، فإذا بالقانون يستبعد واحدًا منهم ويضع المعايير المطلوبة علي اثنين من بينهم مع أن الثلاثة عملوا في ظل النظام السابق قبل أن يتم استبعاد اللواء عمر سليمان بناء علي قرار اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية. وبعيدًا عن قرار اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية الذي أسهم وسوف يسهم في تهدئة الأجواء السياسية والجماهيرية وسوف يؤثر بشكل مباشر علي التحركات الشعبية في الشارع، وبعيدًا عن ردود الفعل الغاضبة إزاء استبعاد عدد من المرشحين الرئيسيين، فإن هذه التطورات لا تلغي المأزق الحقيقي الذي تعيشه البلاد، وهو عدم تشكيل اللجنة التأسيسية بعد حكم القضاء الإداري الأخير، وعدم قدرة البرلمان علي إعداد الدستور خلال الفترة المتبقية لإجراء الانتخابات الرئاسية، وانتهاء الفترة الانتقالية؛ لأن السؤال الأهم في هذه الحالة.. ما هو دور البرلمان إذا لم يستطع إعداد الدستور وفقًا للأهداف التي انتخب من أجلها؟ وفي كل الأحوال يبقي الرهان علي تفاعل القوي السياسية خلال الفترة المقبلة والتوافق حول رؤية موحدة تنقذ الوطن من عثراته، وتخرجه من دوامة الصراعات المتواصلة.