النظام البائد جثم علي صدورنا ثلاثين عاما، ودوخنا بقوانين وتشريعات وقرارات جمهورية، كنا نعلم الأسباب المعلنة والخفية من وراء صدورها، وكلها كانت تهدف إلي تشديد قبضته علي السلطة وغل يد الشعب في التغيير أو التحول نحو الديمقراطية.. والآن يقوم علي شئون البلاد المجلس الأعلي للقوات المسلحة، وأعلن أكثر من مرة أنه ولم ولن يقفز علي السلطة احتراما للشرعية، والتزاما بمبادئ وقيم المؤسسة العسكرية.. إلا أن الغموض يكتنف المستقبل مع اقتراب موعد انتخابات مجلس الشعب، وعدم وضع دستور جديد للبلاد، والإعلان عن مشروع تعديلات قانون مجلس الشعب الذي يشكل لغزا علي النحو الذي جاء به من طريقة الانتخابات بنظام القائمة المغلقة لثلث المقاعد، والثلثين للفردي!! واضح من هذا المشروع ان بعض فلاسفة السياسة أراد استعراض موهبته السياسية علي الآخرين فاقترح ان تجري الانتخابات علي غرار النظام الألماني المعقد الذي يجمع بين النظام الفردي والقائمة المغلقة.. وهو نظام في جميع الأحوال لا يصلح في هذه المرحلة للتطبيق في مصر، لأسباب كثيرة أهمها ثقافة وتركيبة المجتمع المصري، بدليل استمرار نسبة العمال والفلاحين في القانون.. أيضا مسألة الانتخاب بالنظام الفردي للثلثين يمكن أن تشكل أزمة دستورية لعدم قدرة المستقلين علي تشكيل حكومة في حالة فوزهم بأكثر من نصف مقاعد المجلس. الأمر الثاني أننا في حاجة إلي التأسيس لحياة سياسية حقيقية في مصر وهذا التأسيس لن يتم إلا بحياة حزبية حقيقية تقوم علي تعدد الأحزاب وقوتها والتنافس فيما بينها علي أساس برامجها وأهدافها الأمر الذي يجعل المواطن بفضل الأحزاب وأنشطتها ويطلع علي برامجها وأهدافها ويفاضل بينها ويقف علي حقيقة توجهاتها.. ثم يختار من بينها ما يتماشي مع فكره وتوجهاته وطموحه من خلال صوته في الانتخابات المحلية والتشريعية والرئاسية، وهذا لن يحدث إلا من خلال القائمة النسبية غير المشروطة، وهو نظام بسيط يتماشي مع ثقافة المواطن المصري، وهذا في حد ذاته سوف يساعد علي وجود عدد من الأحزاب القوية والرئيسية في مصر. ان طموحات وآمال المصريين في ديمقراطية حقيقية لا تحتاج في هذه المرحلة إلي فلسفة سياسية، أو منح الفرصة لبعض المنافقين والمتملقين ان يكونوا في موقع المسئولية وتحديد مستقبل مصر من خلال إصدار قوانين موجهة، لأن المرحلة لا تحتمل إلا الشفافية والوضوح ومشاركة كل الأحزاب والقوي السياسية في تحديد الأسس والقواعد التي تجري علي أساسها الانتخابات القادمة بحيث تخرج أقرب ما تكون إلي التوجه المصري العام. يبقي التحدي الكبير وهو ان كل ما يطرح ويناقش من مشروعات قوانين وتعديلات دستورية لن يؤسس لحياة سياسية سليمة، أو مستقبل مصر الذي نتمناه علي شتي الأصعدة بدون وضع دستور جديد للبلاد أولا وقبل كل شىء.. يحدد شكل وهوية الدولة المصرية الحديثة، لأن إجراء الانتخابات التشريعية علي الوضع الحالي وبعد أقل من ثلاثة أشهر، وفي ظل حالة الفوضي التي تشهدها البلاد علي المستوي الاجتماعي والأمني قد يفرز نظاماً سياسياً أشد سوءاً من النظام السابق، ويستطيع ان يؤثر ويوجه في اختيار الجمعية التأسيسية التي تضع الدستور الجديد للبلاد، وبالتالي ندخل في نفق مظلم جديد بعد رفض قوي ثورة يناير والقوي السياسية لمثل هذا التدخل الأمر الذي سوف يستدعي تدخل المؤسسة العسكرية مرة أخري. باختصار.. الأمر لا يستدعي كل هذا اللف والدوران.. ومصر لا تحتمل أكثر مما هي فيه وأفضل ضمانة لاستقرار البلاد وانتقالها لمرحلة جديدة هو وضع دستور جديد تحت رعاية ومظلة المجلس الأعلي للقوات المسلحة وفي ظل روح الثورة.. ثم تجري بعد ذلك الانتخابات بمراحلها في ظل دستور يحمي الشعب والدولة من انتهازية أي فصيل سياسي.