اعتاد المصريون الوقوف في الطوابير. طوابير أمام المخابز، وأمام المجمعات، وأمام مستودعات البوتاجاز، وأمام محطات النقل العام، وحتي أمام منافذ صرف المرتبات والمعاشات. لكن طوابير يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين كان لها شكل ومذاق آخر. فلأول مرة يقف المصري سعيداً في طابور. لا يتململ من طول الانتظار. لا يصاب بالزهق حتي لو امتد الوقت إلي ثلاث ساعات وأكثر. لا يبرطم بعبارات ساخطة تلعن أبا الناس وسلسفيل الحكومة. لا يحاول أن يتخطي دوره، ولا يتحايل ليأخذ مكاناً متقدماً علي حساب الآخرين. كان الوقوف في هذا الطابور تحديداً، حلما ظل يراود المصريين علي مر العصور.. وبفضل جماهير الثورة وتضحيات شهدائها ومصابيها، تحقق الحلم.. حلم الاختيار الديمقراطي الحر. قرابة ثلثي المصريين في 9 محافظات ممن تزيد أعمارهم علي 81 عاماً، خرجوا إلي لجان الانتخاب لاختيار نوابهم في مجلس الشعب، ذهبوا إلي صناديق الاقتراع لأول مرة بإرادة طوعية حرة، وبتصميم أكيد علي ممارسة الحق وأداء الواجب، وكلهم ثقة في أن أصواتهم هي وحدها التي ستحدد ممثليهم تحت قبة البرلمان. كنت واحداً من قرابة 5.8 مليون ناخب في العاصمة وثماني محافظات، توافدوا إلي اللجان في المرحلة الأولي لانتخابات مجلس الشعب. شعرت بالزهو وأنا أغمس إصبعي في العبوة المليئة بالحبر الأزرق، بعد أن أدليت بصوتي.. وتذكرت أن آخر عهدي بالانتخابات البرلمانية، كان في عام 7891، وكان التصويت يتم بنفس النظام الحالي بطاقة للقوائم وأخري للفردي. وأذكر أنني يومها أعطيت صوتي لقائمة حزب العمل، وفوجئت بأن القائمة حصلت في المحافظة علي ثمانية أصوات لا غير، رغم أن القائمة تضم خمسة مرشحين، أي أن ثلاثة من هؤلاء المرشحين لم ينجحوا في اقناع زوجاتهم باعطاء أصواتهن للقائمة! كان تزوير إرادة الناخبين فاضحاً في كل انتخابات، وبلغ حد الفجور في الانتخابات البرلمانية منذ عام، كانت نتائجها هي الزناد الذي أطلق ثورة 52 يناير. فقد خرج الشعب المصري ليعبر عن مطالبه بالأصالة عن نفسه، حينما لم يجد ولو نائباً واحداً يعبر بالنيابة عنه تحت قبة البرلمان! لن تقل نسبة الحضور في المرحلتين الثانية والثالثة للانتخابات - في تقديري- عن نسبتها في المرحلة الأولي التي أعلنت نتائجها مساء أمس الأول. لعلها تزيد عن نسبة 26٪ التي سجلتها أولي المراحل، وتحقق رقما قياسياً جديداً، يؤكد وصف المستشار عبدالمعز إبراهيم رئيس اللجنة العليا للانتخابات لنسبة الحضور، حينما قال عنها مباهيا: إنها الأعلي في تاريخ الانتخابات البرلمانية بالبلاد. أجواء العملية الانتخابية قلبت كل التوقعات. جاءت هادئة، بينما الجميع كان يتوقعها عاصفة في ظل حالة استقطاب شديدة بين القوي السياسية. جاءت آمنة، بينما الغالبية كانت تتوقعها دموية في ظل تفشي البلطجة، وانتشار السلاح في الشارع، ووجود أعداد بالآلاف من السجناء الهاربين، وتنامي قوة العناصر المضادة للثورة التي قد تنتهز الفرصة لتشيع الفوضي في خضم الانتخابات. الفضل في المشهد الرائع الذي بدا عليه الشارع المصري يومي الاثنين والثلاثاء، وكان محط انظار العالم، يرجع أولاً إلي الوعي الجماعي لجماهير الشعب التي تثبت في كل منعطف أنها أكثر حكمة من نخبتها السياسية وأبعد نظراً من صفوتها المثقفة، ويرجع ثانياً إلي خطة التأمين المحكمة التي أعدتها وأشرفت عليها القوات المسلحة ونفذتها بالتعاون مع الشرطة، والإنصاف يدعونا إلي التعبير عن التقدير للقوات المسلحة ومجلسها الأعلي الذي تعهد بإجراء انتخابات برلمانية آمنة نزيهة شفافة، تليق بمصر وشعبها، وصمم علي أن تتم الانتخابات في موعدها رغم كل الدعاوي والمبررات التي كانت تشكك في خروجها بسلام. ولا ننسي دور قضاة مصر العظام الذين أعطوا الثقة للشعب بإشرافهم علي كل مراحل العملية الانتخابية، وكانوا المحفز علي تشجيع الناخبين علي التوجه إلي اللجان وهم مطمئنون إلي أن أصواتهم في أيد نزيهة. اختار الشعب بملء إرادته الحرة في انتخابات نزيهة قرابة ثلث أعضاء أول مجلس شعب بعد الثورة. وعلي الجميع، أكثرية وأقلية، أغلبية ومعارضة، أن يحترم الاختيار وأن ينصاع لرغبة الشعب. المرحلة الأولي أسفرت - طبقا للمؤشرات شبه النهائية - عن حصول قوائم حزب الحرية والعدالة 'الإخوان المسلمين' علي نحو 04٪ من أصوات الناخبين في دوائر المحافظات التسع، وحصول قوائم حزب النور ' السلفيين' علي ما يزيد علي 02٪ من الأصوات، وقوائم 'الكتلة المصرية' علي أكثر من 51٪ من الأصوات، بينما يتوزع الباقي بنسب أقل علي أحزاب الوسط والوفد وبعض الأحزاب الأخري. وطبقا لنتائج الفردي والتوقعات المنطقية لجولة الإعادة علي المقاعد الفردية فالمرجح أن تحصل القوي الإسلامية ممثلة في حزبي الحرية والعدالة والنور علي ما يزيد علي 06٪ من المقاعد الأربع والخمسين التي تجري عليها جولة الإعادة لانتخابات المرحلة الأولي. إذن قد تسفر المرحلة الأولي عن حصول القوي الإسلامية علي ما يقترب من 56٪ من عدد مقاعد هذه المرحلة. هناك توقعات ليس لها ما يسندها من براهين، تقول إن نتائج المرحلة الأولي سيكون لها انعكاس سلبي علي حجم التصويت لصالح القوي الإسلامية في المرحلتين الثانية والثالثة، خشية هيمنتها علي أغلبية ثلثي مقاعد مجلس الشعب، وعلي النقيض هناك تكهنات ليس لها ما يعززها من دلائل، تقول إن تلك النتائج ستشجع علي زيادة معدلات التصويت لحزبي النور والحرية والعدالة، انطلاقاً من أن الناخب يسعي وراء الرابحين ي كل الأحوال.. تبدو الغلبة لنواب الإخوان والسلفيين في أول برلمان بعد الثورة. ورغم ما يقال من أن حزب الحرية والعدالة 'حزب الأكثرية المتوقعة' لن يتحالف مع حزب النور ليشكلا معا أغلبية إسلامية داخل المجلس، ورغم ما يذاع علي ألسنة قيادات الإخوان عن حرصهم علي انشاء تحالف واسع داخل البرلمان يتأسس علي التحالف الديمقراطي الذي تفككت أوصاله قبل الانتخابات، فإن هناك مخاوف لا يجب إنكارها، تلازم قطاعات لا يستهان بها من الشعب، سواء من الليبراليين واليساريين، أو من الأقباط، أو من رجال الأعمال والبنوك، بشأن توجهات البرلمان المقبل ذي الأغلبية الإسلامية، ومواقفه من قضايا شتي وانعكاسات هذه المواقف علي التشريعات التي سيصدرها. وإذا كان البعض لا يري في الإخوان خطراً علي الدولة المدنية إلا من زاوية تصريحات بعض قياداتهم التي تنم عن رغبة في الهيمنة والاستحواذ وربما الانفراد بتوجيه مسار الحياة السياسية، فإن شريحة ضخمة من المواطنين يستبد بها القلق من توجهات السلفيين، لاسيما مع تركيز بعض قادتهم علي الانتقاص من حقوق الأقباط، وفرض الوصاية علي الحريات الشخصية والعامة، فضلا عن مواقفهم المناهضة للسياحة والمعارضة للنظام المصرفي المعمول به في البلاد. هذه المخاوف لابد من تبديدها بإعلان واضح والتزام أكيد من جانب القوي الإسلامية، بوثيقة مبادئ دستورية يجري التوافق عليها بين جميع القوي وتوقع عليها كل التيارات، للاهتداء بها عند وضع الدستور الجديد، مع الاتفاق علي أسس اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي ستتولي إعداد الدستور، حتي لا يهيمن فصيل بعينه أو تيار بذاته علي عضوية الجمعية، ومن ثم ينفرد بكتابة الدستور. وللحق لست أفهم لماذا تعارض القوي الإسلامية وصف الدولة المصرية بأنها دولة مدنية، إذا كانت تصريحاتهم تقول إن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، وأنه أول من أقام دولة مدنية؟!.. لست أفهم لماذا التشدد في الرفض، إذا كانت كل القوي توافقت علي أن الدستور القادم لابد أن ينص علي أن الإسلام هو دين الدولة، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وأن لغير المسلمين الحق في الاحتكام إلي شرائعهم في شئونهم الدينية وفي أحوالهم الشخصية؟! مرة أخري أقول إن ألف باء الديمقراطية في أي بلد، هي احترام إرادة الشعب، وعلينا جميعاً أن ننصاع لها. ومرة جديدة أقول ليس مهما من ربح أو سيربح في الانتخابات، المهم أننا صرنا قادرين علي التغيير إذا أردنا عبر صندوق الانتخاب. وأملنا في نواب الشعب الجدد أن ينهضوا بمسئولياتهم التشريعية والرقابية لتحقيق مطالب الجماهير وأهدا الثورة، وأهمها في تقديري هو إصلاح أحوال الفقراء والمعدمين وبناء دولة تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية.