سؤال يداهمنا جميعا في ساعات الشدة والضيق والضجر، وسرعان ما تتلاحق توابع السؤال.. من أين تأتينا المصائب؟.. وهل هناك من يكون مساهما في صنعها؟.. ومن أجل ماذا؟.. في لحظات شرود وتأمل وأنا أتابع أحوال الدنيا من حولي، وجدت نفسي أعود إلي الماضي القريب وأتذكر الدستور المصري قبل عام 1980.. لم يكن سيئا في مجمله، وكان ينص صراحة علي أن مدة رئاسة الجمهورية فترتان لا ثالث لهما، ومدة كل فترة ست سنوات، وبهذا يضمن الدستور تداول السلطة، وهذا ما يحدث في غالبية بلاد الدنيا، إلا أن مصر المحروسة خرجت من هذه الغالبية بإرادة مجموعة من السيدات بزعامة السيدة فايدة كامل، وبمساندة الدكتورة زينب السبكي والأستاذة فاطمة عنان. ويزعم البعض أن الأمر كله من تدبير السيدة الأولي في ذلك الوقت 'جيهان السادات'، لأن السيدات الأوليات يفضلن الاستمرارية.. والسيدة فايدة كامل أمد الله في عمرها مطربة شعبية ومن أغنياتها الشهيرة 'يا واد يا سمارة' و'أنا بنت ستاشر سنة'، ثم صارت نائبة في مجلس الشعب الموقر، بالإضافة إلي أنها زوجة اللواء نبوي إسماعيل وزير الداخلية في ذلك الوقت.. وكانت ضمن حاشية السيدة الأولي.. هذه السيدة 'الفاضلة' وقفت في مجلس الشعب، وطالبت بأن يكون الرئيس السادات رحمة الله عليه رئيسا لجمهورية مصر العربية مدي الحياة.. حدث هذا قرب انتهاء مدة الولاية الثانية.. وحدث التصفيق الحاد والتهليل والموافقة، ولكن كيف يحدث ذلك والدستور يمنع ويحول؟.. ولأن الدستور في عرف البعض.. ليس كتابا مقدسا وهو من وضع البشر،فعليهم تطويعه وتعديله حتي يلبي الرغبات السيادية.. وتم التعديل.. وتم النص علي أن تكون 'مدد متعددة' أي مفتوحة وإلي ما شاء الله.. ولأن الشعب المصري يعشق السخرية من الأحوال المائلة، فقد أطلق علي هذا التعديل.. تعديل الهوانم.. لم تفكر السيدة فايدة كامل والفريق الذي معها.. وأيضا لم يفكر المجلس بكامل أعضائه في عدة أمور أساسية وجوهرية.. أولها: أن فكرة الرئيس لمدي الحياة فكرة عقيمة وسقيمة، وأن الأعمار قد تطول وقد تقصر، فهي بيد المولي عز وجل 'ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ولا بأي أرض تموت'، وفي حالة إن طالت الحياة بالإنسان، فإن سنوات الشيخوخة وأمراضها تجعله غير قادر علي إدارة شركة، فما بالكم في إدارة دولة.. ثم إن الإنسان في شيخوخته يحتاج إلي الراحة بعد عناء سنوات العمر، من الثابت علميا وطبيا أن الإنسان في شيخوخته تتضاءل قدراته، وتتخبط أحكامه، وتضعف قدراته الذهنية.. إذن فمسألة الحاكم مدي الحياة تلحق الأذي بالحاكم قبل المحكوم.. الأمر الثاني: أن السيدة النائبة فايدة كامل وسائر النواب والنائبات لم يكونوا أبدا نوابا عن الشعب في المجلس الموقر، ولكنهم كانوا نوابا عن السيد الرئيس، الذي أراد أن يستمر رئيسا للجمهورية مدي الحياة، فجاء أمر الله الذي لا يرد، ويموت الرجل دون أن يحصل علي ما سعي إليه.. رحل السادات رحمة الله عليه.. وانزوت السيدة جيهان وابتعدت عنها الأضواء. والسيدة فايدة كامل تعيش الوحدة، وتعاني رتابة الحياة بعد رحيل شريك حياتها، وكلهم لم يحصلوا علي أي شيء يعد ثمنا لهذا التخريب المتعمد للديمقراطية.. هم لم يكسبوا شيئا، بينما خسر الشعب.. وهنا لا يفوتنا الحديث عن هذا المجلس الموقر الذي كان يتصدي بكل حسم وحزم لأي مساس بالدستور، أو ضياع حق من حقوق الشعب، وذلك في عهد ما قبل الثورة، فما بال المجالس المتعاقبة بعد الثورة تتعامل مع الدستور وكأنه مقال في جريدة حكومية لكاتب مبتدئ يخضع لقرارات رئيس التحرير ورؤيته، يحذف منه ما يشاء، ويضيف إليه ما يشاء.. أو اعتباره مثل قانون الإسكان يتم التغيير فيه حسب مصالح تجار الأراضي وشركات المقاولات.. التعامل مع الدستور بهذا القدر من الهوان نذير شؤم وضياع.. الدساتير هي التي تحمي الشعوب من فتك أي سلطة باغية.. وهي التي توفر الحماية للحقوق والممتلكات، وهي ضمان الحرية وحارس العدالة.. وعليه، فإن المواد الموجودة بالدستور والتي هي خلايا سرطانية تحول دون تحقيق حرية كاملة.. وديمقراطية كاملة.. وعدالة كاملة.. يجب أن يتم استئصالها حتي تعود إلي الدستور صحته وعافيته.. الدساتير تحمي الشعوب من عبث الحكومات والحكام، وتصون الحريات بكل أنواعها.. ولا تكون وسيلة لفرض إرادة الحكام.. والتعديلات التي جرت علي الدستور في العام الماضي لا تليق بهذه الأمة.. ولا تليق بمن فكروا فيها، أو خططوا لها، وبالتالي الذين قاموا بالتنفيذ والذين قاموا بحملات الترويج والتجميل، ومعلوم وثابت أن القرد سيظل قردا ولن يكون غزالا حتي لو تولاه أعظم أطباء التجميل. والمؤسف حقا أن تعديل الهوانم هذا تحول إلي مرض معد، حيث أصاب عدة جمهوريات عربية شقيقة بعد أن أصبحت مصر هي القدوة لها في هذه النقيصة، تونس.. الجزائر.. اليمن.. السودان.. سوريا.. أصبح السادة الرؤساء ملوكا بلا تيجان.. والحكام دائما وأبدا هناك من يوسوس لهم بالشر في غالب الأحيان، وأصحاب المصالح والأطماع هم دعاة الظلم والرجعية، وهم ضد أي تقدم إنساني أو حضاري أو علمي، وغالبا لا تقع مسئولية الظلم وكبت حرية الشعوب علي عاتق الحاكم وحده، إنما تقع أيضا وبالضرورة علي عاتق الذين ناصروه وامتدحوه ونافقوه، والقرآن الكريم يقول: 'إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا' فالله - سبحانه وتعالي - يفرض العقاب علي الجميع في هذه الحالة.. الظالم ومن قبل بالظلم ولم يقاومه، وعشاق قراءة التاريخ يعلمون أن هناك بعض الملوك والسلاطين كانوا يفرضون الجهل علي رعاياهم حتي يضمنوا طاعتهم، وليس الجهل فقط ولكن الفقر أيضا، وربما يكون هذا الأمر مستمرا حتي الآن في بلاد قد نعرف بعضها ولا نعرف بعضها.. أما بالنسبة لنا، ففي صدري حلم.. وربما يكون خيال مؤلف ليس إلا.. ماذا يحدث في مصر المحروسة لو أن هناك دستورا جديدا يعمل عليه المخلصون بحق وصدق من أجل صالح هذا البلد.. فقهاء القانون والدين والعلماء وأهل الفكر والرأي ورجال السياسة والاقتصاد، دستور يحمي هذا البلد من هوي القلة المفترية، دستور يرفع الحواجز والقيود.. لو حدث ذلك فستكون الدنيا في مصر غير الدنيا التي هي عليها الآن.. والله المستعان.