نعي الكاتب البريطاني الشهير روجر كوهين حال أوروبا اليوم في خضم مواجهتها ملفيّ الانقسام الداخلي والهجرة. واستهل مقالا نشرته نيويورك تايمز قائلا ' ها هو البحر المتوسط، مهد الحضارة، صار جبّانة مائية.. وعلي جانب طريق سريع نمساوي، لقي 71 لاجئا لم يُستدل علي أسمائهم مصرعهم مختنقين في شاحنة مهجورة.. فيما قامت السلطات التشيكية مُسلحة بواسمات لا تُمحي نقوشها، وبلا أي حس تاريخي، بحفر أرقام هويات علي جلود 200 مهاجر.. فيما انخدع آخرون بوعود بالحرية بذلها رجال شرطة مجريين ليجدوا أنفسهم بعد ذلك في مخيمات استقبال'. وأضاف 'هذه سلوفاكيا لا تقبل غير المسيحين من اللاجئين وترفض المسلمين سوريين أو أفغان.. وهذا بوتين الصغير فكتور أوربان المتعجرف رئيس حكومة المجر، يقول إنه يحمي الحضارة الأوروبية، وهذه أسلاك شائكة حدودية بطول 175 كم علي الحدود الصربية.. وديفيد كاميرون يتحدث عن سرب من المهاجرين يحاول الوصول إلي بريطانيا، إنه الجراد الذي يتحرك في أسراب.. وسط هذا وذاك ها هو طفل سوري لم يتجاوز الثالثة، يده اليسري الصغيرة مطوية إلي الخلف كما لو كان نائما في مهاد، ملقي ميتا علي أحد شواطئ تركيا، وجهه في الرمال، عتابه الصامت يستعصي علي المحو.. كان اسمه إيلان الكردي.. عائلته أرادت أن تحضره إلي أوروبا'. وتابع كوهين 'ها هي الظلال تعود، مشبّعة بالمفارقات.. المجر في ظل أوربان تدير ظهرها للمجر الرائعة عام 1989، أولي الدول التي فتحت الستار الحديدي للسماح لعشرات الآلاف من أبناء ألمانياالشرقية بالعبور إلي النمسا ومن هناك يسلكون الطريق إلي ألمانياالغربية.. ولكن المجر المترددة في ظل أوربان تنسي كيف أنه عام 1956 -وقت اجتياح السوفيات- فرّ مئتا ألف مجري إلي النمسا ووجدوا ملجأ وحرية في أوروبا الغربية'. وقال 'هذه المجر البائسة تختار كذلك أن تتجاهل أنه، من بين كافة المميزات التي حصلت عليها الأمم السابقة في كتلة السوفيات عندما انتهي تقسيم أوروبا، كانت حرية الحركة هي أغلي جائزة.. وتأمنت تلك الجائزة بسقوط حائط.. والآن المجر تنصب حائطا آخر' وتابع 'المجر ليست وحدها في مسلك التحيز، تفضيل المسيحيين من المهاجرين 'بأعداد صغيرة' ووصْم المسلمين بالخطر الذي لا مفر منه، بات هو مسلك كافة دول وسط وشرق أوروبا اللذين كانا ذات يوم جزءا من امبراطورية السوفيات.. تلك الدول لم تعرف تدفق المهاجرين الذي أعقب الحقبة الكولونيالية علي نحو غيّر وجه العديد من مجتمعات أوروبا الغربية.. يهود تلك الدول قُتل معظمهم علي أيدي النازيين 'بمساعدة من متواطئين محليين'.. تركيبة تلك الدول العرقية زادت تجانسا عبر التحولات الحدودية أو عمليات الطرد الجماعية.. التاريخ الحديث لتك الدول قوامه الهجرة الجماعية صوب غرب أوروبا بحثا عن فرص وليست هجرة من أجل الهجرة.' ونقل كوهين عن الباحث الفرنسي الشهير جاك روبنيك القول إن ثمة تصورا شائعا في الجانب الشرقي من القارة العجوز أن 'نموذج تعدد الثقافات في الجانب الغربي قد باء بالفشل.. وثمة قناعة في تلك الدول بأن الهجرة من الجنوب اليوم تعني 'ضواحي إسلامية' في الغد. ومضي الكاتب ' أوروبا، مُثقلة بتاريخ طويل جدا، اسمك النسيان.. حقيقتك خليط من الأجناس.. قبائلك المتصوَرة ليست سوي وهْم تُكذبّه موجاتُ هجرة لم تنقطع علي مدي قرون.. أمَلك هو دماء جديدة، فالنقاء العرقي كان مذبح إيذائك المتكرر لنفسك.. واجبك هو الذاكرة، عهْدك إلي أبنائك الصراحة والاتحاد، لأنهم يجب أن يعيشوا'. وتابع 'نعم، الذاكرة، إذا اهتمت أوروبا بأن تتذكر، فربما تدرك أن هذه هي أكبر موجة هجرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما تحرك الملايين صوب الغرب هربا من ديكتاتورية ستالين.. وربما تذكر أيضا أن هذا التحرك الجماعي كان ثمرة حرب طارت شرارة نيرانها الأولي من قلب إحدي أعظم حضارات القارة العجوز هي ألمانيا حين حاولت بجنون أن تفرض علي القارة فكرة سيادة الجنس الآري علي غيره وأن تتخلص من اليهود والغجر وآخرين رأي هتلر أنهم ينتمون إلي أجناس أدني منزلة'. وقال كوهين 'اليوم، يصارع اللاجئون لدخول ألمانيا التي يقال إنها تتوقع 800 ألف مهاجر خلال العام الجاري.. آنجيلا ميركل المستشارة التي نشأت في ألمانياالشرقية، ارتقت هامتها علي غيرها من القادة الأوروبيين، لأن تاريخها الشخصي يوضح المخاطر'.. وقالت ميركل 'لو أن أوروبا فشلت في هذه المسألة الخاصة باللاجئين، فإن علاقتها الوثيقة بحقوق المواطنة العالمية ستتدمر'.. وبعد، وبشكل يغلب عليه الطابع الراديكالي 'النظام الألماني سائد، لكن ما نحتاجه الآن هو مرونة ألمانيا'. وعلق الكاتب بالقول 'حتي المرونة الألمانية، وهي أمر بعيد الاحتمال، ليست كافية.. هذه أزمة أوروبية.. في وقت يعاني فيه الاتحاد الأوروبي من التمزق 'اليونان واليورو، وبريطانيا واحتمال الخروج، وصعود أحزاب اليمين، وتهديدات فلاديمير بوتين'.. لقد تم تذكير أوروبا بغرضها الرئيسي وإنجازها الوحيد: الخراب والبؤس الذي نشأت منه، التجمعات المطرودة التي آوتها، الاتحاد الذي كونته بعد التقسيم الذي بذلت في سبيله العديد من الضحايا'. واختتم قائلا 'الحاجة اليوم هي للمزيد من الاتحاد، وسياسة متناغمة بشأن الهجرة بين الأعضاء الثماني والعشرين، وتجديد الفكرة الأوروبية.. وكما تقول لورا بولدريني، رئيسة البرلمان الإيطالي 'عندما يتحول البحر المتوسط إلي جبّانة، فنحن بحاجة إلي أوروبا جديدة.. لا أحد يمكنه أن يحب أوروبا الراهنة.. لقد حان الوقت للدفع من جديد صوب الولاياتالمتحدة الأوروبية'.