رحل عن عالمنا بالأمس الشاعر الأصيل عبد الرحمن الأبنودي عن عمر يناهز ال76 عام رحل تاركا لنا إرثا شعريا وقصائد زادت عن ال600 قصيدة ليصبح شاعر العامية الفذ الذي يعتبر شمس العفية في مصر والعالم العربي، رحل وترك مصر بعد أن اطمأن لرئيسها وارتاح إلي خطاها رغم حلمه برؤيتها عفية كما كان يحلم، رحل وكان يريد أن يري روح التغيير، رحل وهو يتمني أن يري السفن العالمية تمر من قناةالسويس الجديدة فحرمنا من قصيدة في افتتاحها. ولد الأبنودي في أبنود بقنا بصيد مصر فلقب بالخال وهو لقب منتشر في صعيد مصر والوجه البحري أيضا يطلق تقديرا لصاحبه بسبب مواهبه وحسن خلقه وكرمه ومودته وعاطفته الجياشة تجاه الأسرة والعائلة والبلد، كبر هنا حيث رواة السير الشعبية فجذبته السيرة الهلالية ووهب شبابه ليجمعها من الرواة والمنشدين لحبه للتراث الشعبي بكل فروعه حتي جاءت لغته الشعرية مليئة بالمترادفات والمعاني من صميم التراث والفلكلور المصري حتي تمكن من إعداد مؤلفه الشهير السيرة الهلالية التي جمعها من المنشدين الأمر الذي كان له بالغ الأثر في نشر السيرة الشعبية وإحيائها من جديد وإعطائها قدرا واهتماما كبيرا جعلها تدخل بعمق في نطاق دراسة أدبها ونصوصها ولغتها وموسيقاها ومنشدوها عبر الجامعات المصرية والمحافل العربية والعالمية، عاصر كبار السياسيين والأدباء والمفكرين والفنانين والشعراء والصحفيين ودور النشر والكتب الذي جمعه بهم منتديات مختلفة منها ما اتفق ومنها ما اختلف، ولأنه ولد أواخر ثلاثينيات القرن الماضي فقد عايش الظروف والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر والعالم العربي فقد جاءت أشعاره العامية وليدة الموقف ووليدة اللحظة، فكان معبرا بلغة جميلة تصل لكل القلوب عن أمال وآلام الأمة في كل مواقفها ونجاحاتها ومحنها وكان مدافعا عن الحق رافضا للظلم ومطالبا بالعدل وحالما بتغيير حال البسطاء والفقراء من المصريين إلي غد أفضل حتي أصبح عره وقصائده بلسما شافيا لكل جراحهم وآلامهم كما كان مدافعا ومحفزا لإرادتهم من أجل الثورة علي الظلم بكل أنواعه من أجل إحداث التغيير. لقد كان الأبنودي للمصريين الخال الحاني عليهم بكل نبضاته وأشعاره فكان خال العشرة والعشيرة والصحبة داخل الأسرة المصرية، وكان خالا جامعا للعلم والمعرفة والفكر والفلسفة ذو قدرة فذة علي ترجمة المعاني ومعايشة الواقع والأحداث لتميزه بملكه الصدق الفني والقدرة علي التعبير عن هموم وأحاسيس الناس في ربوع مصر من خلال لغة صعيدية جميلة وسليمة وقريبة من كل المصريين ولهذا فقد أحب المصريون قصائده وكان ينتظرونها في كل المواقف والمحن عن ظهر قلب، وكان مما يزيد تلك القصائد روعة وجمال وكمال هو أنها وجدت أروع الملحنين والمطربين في مصر والعالم حتي تغني بقصائده جميعهم ونذكر منهم هنا صوت النصر والثورة الفنان عبد الحليم حافظ الذي غني وتغني بالأبنودي، ومن تلك الأغاني نذكر عدي النهار، أحلف بسماها وبترابها، أمك بتقولك يا بطل، أن كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب وغيرها من أغاني النصر واسترداد سيناء الذي تغني برمالها، كما نذكر من أغانيه للفنانة شادية آه يا اسمراني اللون، والوداع قاللي، وأغاني فيلم شيء من الخوف، وغيرها من الأغاني السياسية والثورية والاجتماعية والشعبية والعاطفية والفلسفية، ومن أجمل قصائده قصيدة الميدان التي تعتبر واحدة من أهم القصائد التي أطلقها في ذكري ثورة يناير عندما ذهب للثوار في الميدان وأطلق قصائده التي ظلت عبر تاريخه الطويل تحلم بالتغيير مما كان له بالغ الأثر في ثبات الثوار في الميدان حتي نجحت ثورتهم، وظل بعدها محذرا من خطر الإخوان علي مصر وهويتها وحضارتها حتي تخلصت مصر منهم وانتهت بثورة الثلاثين من يونيو التي أوصلت الرئيس السيسي لحكم مصر وارتياح الأبنودي، ومن قصائده أيضا خايف أموت من غير ما أشوف تغيير الوشوش، ومن أشهر دواوينه أيضا ديوان خيط الحرير، والأرض والعيال، ومن أشهر كتبه أيامنا الحلوة، كما كتب العديد من أغاني المسلسلات والأفلام، ولهذا كان عبر تاريخه الحافل والمعطاء شاعر العامية الأول باقتدار لأنه لم يعكس في شعره أصوله الصعيدية فحسب بل عكس أصوله الفرعونية والقبطية والإسلامية وكل ربوع مصر حتي أصبح وأمسي مؤدي ومؤلف القصيدة باقتدار لأنه عكس كلماته ولخص الخبرة الإنسانية، ورغم بساطة كلماته وخفة وروعة أسلوبه إلا أنها حملت في طياتها البساطة العالية التي تختزل الخبرة والحياة المعاشة التي تماثل المفارقات والتناقضات العجيبة التي كان يحفل بها الواقع من حوله، وجاء عبر قصائده غيورا علي مصريته ووطنيته وعروبته ومدافعا عن كرامته ومعتزا بحضارته وجاء معبرا عن كل الطبقات وبخاصة الطبقة الكادحة والفقيرة وبخاصة من العامل بالمصنع إلي الفلاح في أرضه إلي الجندي في ميدانه ولهذا جاء مرتبط بكل قضايا الوطن حتي ارتفع صوت قصائده في فترة علي فيها صوت عبد الناصر، ثم تغيرت قصائده في فترة خبي فيها الصوت في عهد مبارك ليعلو صوته في قصائده مرة أخري بعد أن تحقق حلمه في ثورة 25 يناير وثورة الثلاثين من يونيو ليعود بقوة إلي الشعب. فمن روعته أنه عندما كان يلقي شعره يشعرك وكأن مصر كلها تتحدث وتنبض لأن لغته هي لغة الحضارة العريقة السنين لغة أرض الكنانة لغة بلد النيل والأرض الطين لغة التين وطور سينين وبلده الأمين، لغة القري والنجوع والكفور لغة الثورة لغة النصر حتي أصبح بالنسبة لنا مع رفاقه من الأدباء والشعراء والفنانين والصحفيين الذين رحلوا مؤخرا الصحبة والفخر، ولهذا ومع رحليه ورحيلهم فإننا أصبحنا في عالمنا ومصرنا الآن بلا خال أو عم كما نعرفهما في تراثنا الشعبي وفي عادتنا وتقاليدنا عبر مفاهيمها الأصلية. لن ننسي كلماته ومروءته وشهامته وتفانيه في حب بلده وأمته وحب دينه، لن ننسي شعره الذي كان يتدفق من الجنوب كما يتدفق ماء النيل من الجنوب إلي الشمال، لن ننسي نور شعره وأغانيه الذي كان يأتينا من نور السد العالي من أعالي الصعيد، لن ننسي نسمة الجنوب العطرة وتلك القصائد التي كانت تأتينا من قنا، لن ننسي أصالة هذا الشاعر الفذ، لن ننسي لغته العذبة والقوية والعفية والأبية، لن ننسي دعوته لنا عبر قصائده بالتمسك بالترابط والتلاحم والتماسك لتقف صدا منيعا في وجه أعدائنا أعداء الدين والوطن، وسوف يظل لنا بمثابة القلب النابض، والحق الساطع، وسيظل شمس الصعيد وشمس مصر العفية، سيظل أبو الكرامة والنضال، وسوف نواصل خطاه ونعمل علي تحقيق حلمه رغم ألمنا علي رحيله ورحيل الكثير من الرواد في تلك السنوات الأخيرة، وهؤلاء الذين رحلوا وتركونا في زمن قاسي زمن قل فيه العطاء وقل فيه الصدق، وزمن قل فيه الانتماء وتراجعت فيه الوطنية، زمن زاد فيه الزيف وانتشرت العشوائيات في كل مجال، زمن زاد فيه الاعتداء علي الإسلام والاعتداء علي الدين والوطن، زمن تراجع فيه الإبداع الأصيل وتراجعت فيه تعابير لغتنا الجميلة التي دنست بكلمات رخيصة وغريبة علي مجتمعنا، زمن أصبحت فيه أمتنا العربية مستهدفة بأكثر من أي وقت، زمن خلا من القدرات والمواهب الصادقة والمبدعين الحقيقيين الذين يستحقوا شرف التعبير عن مصر ومواصلة مجدها، زمن لم يعد فيه الخال خال ولا العم عم. ولهذا اختتم مقالي هذا وأقول لك الله يا مصر بع رحيل كل هؤلاء الذين كانوا يعتبرون بالنسبة لك الأوتاد والحصون المنيعة التي تدافع وتعبر عنك، اختتم مقالي ودموعي تنزف لأن قلمي وأنا في الغربة لم يطاوعني أن اكتب رحيل الأبنودي ولولا شقيقي الأكبر مني اتصل بي وطلب مني أن اكتب عن رحيل الأبنودي كما كتبت من قبل في جريدة الأسبوع عن رحيل الكثير من الرواد حتي وجدت نفسي من أجله أن اكتب عن رحيله لعظمته من جهة ولحب أبي رحمه الله الذي كان متعلقا به ودعوت الله أن يعوضنا في رحيله ورحيل جيل الرواد المصريين خيرا وأن يوفق مصر ورئيسها لما فيه خيرنا وخير أمتنا.