مع مثول هذه السطور للطبع 'الأحد 11 يناير' تكون جماهير الشعب الفرنسي قد احتشدت في مظاهرات عارمة استجابة لنداء رئيسها 'فرانسوا هولاند' الذي لم يجد مفراً من الاقتداء بالمارشال عبد الفتاح السيسي، والذي طلب تفويضاً من المصريين قبل عام ونصف العام لمواجهة الأعمال الإرهابية التي اجتاحت مصر، وهو بالضبط ما أقدم عليه رئيس فرنسا حيث طلب من شعبه هو الآخر توكيله في اتخاذ ما يراه من إجراءات استثنائية تعينه علي التصدي للإرهاب الذي داهم بلاده، علي خلفية العملية الإرهابية البشعة التي جرت صباح الأربعاء الماضي وأسفرت عن وقوع 12 قتيلاً و10 جرحي إثر اقتحام ثلاثة ملثمين لمقر صحيفة 'شارلي الأسبوعية' الساخرة بباريس، وما أعقبها من عمليات أخري مماثلة، وجميعها قام بها متطرفون دمويون، نصبوا أنفسهم حماة للإسلام، مدعين أنهم مجاهدون سكبوا أنفسهم، وقدموا حياتهم طوعاً، كذبائح فداءً للدين وللنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، بينما كل الأديان والرسل والأنبياء منهم براء، وكافة الشرائع السماوية، والوضعية، والقيم الإنسانية علي حدٍ سواء تُدين، وتؤثم فعلاتهم الوحشية. وكان الهدف من تلك الجريمة النكراء هو الانتقام من صحيفة 'شارلي إيبدو' لاعتيادها نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول، أو كما وصفه تنظيم القاعدة في بيانه الصوتي أنه 'تأديب' للصحافة الفرنسية التي تجاوزت حرية التعبير!! والحق أنه لا أحد يملأ عين 'شارلي' ذات الانتماء اليساري التي دأبت علي السخرية من كل التيارات الأخري، فلا اليمين المتطرف، ولا رجال الفكر أو السياسة أو المال، ولا الكنيسة، ولا اليهود، ولا المسلمون، ولا غيرهم سلموا من نقدها البذيء، فتلك الصحيفة لا تحترم المقدسات الدينية، ولا تعترف بالمعايير الأخلاقية، فهي تتربص بجميع الأطراف، وتتصيد مواقفهم وأخطاءهم، ثم تقوم بتضخيمها، وتسليط الضوء علي أصحابها.. وتبدأ في شن حملات من النقد الصفيق غير المحكوم بأية ضوابط، حيث لا خطوط حمراء لديها، ولا سقف ولاجدران، ولا أي شيء يمكنه أن يحكم أداءها.. فقط طموحها المحموم هو الذي يحركها، فتلك الصحيفة تعتبر الجميع بمثابة أكل عيش بالنسبة لها.. وبالطبع يتصدر المسلمون مقدمة طابور الزبائن الطويل لما آلت إليه أحوالهم علي يد السفهاء منهم.. وما أكثرهم!! فنحن من بدأنا بإهانة أنفسنا بأنفسنا، ففتحنا أبواب مذلتنا بأيدينا أمام الحاقدين الوضعاء لصب المزيد من الاستهزاء بنا، والاستخفاف بقَدرِنا، حتي وصلنا إلي ما نحن فيه الآن، يتهكم علينا بمنتهي الخسة من يشاء، متي، وكيفما يشاء، ويعبث بأقدارنا الحسدة التافهين. وإمعاناً في الموضوعية يجب علينا الإقرار بأنه كما توجد فروق في التوقيت، ودرجات الحرارة، والأحوال المناخية، بين بلادنا وبقية بلدان العالم، وكذلك اختلاف في لون البشرة، والعين، والشعر بيننا وبين شعوب الدول الأخري، فهناك أيضاً تباين كبير في تركيبة العادات والتقاليد والقيم والأخلاق المرتبطة بالموروث الثقافي والديني، والمستوي التعليمي والاجتماعي والمادي، مما يحدد شكل الحريات في كل مجتمع ونصيب الفرد منها، وتلك التفاوتات من شأنها أن تخلق العديد من الالتباسات والمشاكل أيضاً، فما نعتبره فعلاً مشيناً، يعد بالنسبة لشعوب أخري أمراً عادياً، بل ضرورياً في أغلب الأحيان، والعكس بالعكس. وذلك الأسلوب الذي تتبعه 'شارلي إيبدو' هو ما كان ينتهجه باسم يوسف في برنامجه الشهير، وفشل في ترسيخه داخل المجتمع المصري لأنه ببساطة نسخة طبق الأصل مما يقدمه 'جون ستيوارت' المذيع الأمريكي الجنسية، اليهودي الأصل والهوي، وهو ما لم يستطع المصريون استساغته لمدة أطول من اللازم، والمقصود بكلمة اللازم هنا هو أنهم- وبمنتهي الذكاء الفطري- اعتبروا باسم يوسف شيء لزوم الشيء، فتقبلوه كأداه لانتقاد الواقع الهمجي المرفوض آنذاك، وبعدها استخدموه كوسيلة للهجوم علي الحاكم المنبوذ.. ولكن ما أن اشتموا نسمات الاستقرار المأمول، حينها تحولوا عن باسم يوسف رغم ما يتمتع به من خفة ظل، ولفظوه ليس لشخصه، ولكن لمنهجه المُبتَذَل في النقد والذي باتوا يكرهونه بعد ما عادوا لطبيعتهم الأصلية. وقبل مائة وأربعين عاماً تفوق 'بارتولدي' في استخدام ذات الطرق الرخيصة في التعبير، عندما نحت تمثال شامبليون الجاثم بنعل حذائه علي رأس الفرعون، مدعوماً في ذلك بإيمان الشعب الفرنسي العظيم بالحرية ولا سيما في الفكر، والفن، والإبداع. فهل آن الأوان للساسة الفرنسيين أن يستوعبوا الدرس من حادث 'شارلي إيبدو'؟؟ هل أدركوا فداحة ثمن الحرية غير المسؤولة؟؟ هل أصبحوا يعلمون أن الحرية مشروطة باحترام الآخرين؟؟ هل هم متيقنون الآن من أنه لا مكان للحرية المطلقة، وأن معايير الحرية يجب أن تكون بالاتفاق والتراضي بين جميع الأطراف؟؟ فهل حان الوقت أيها الفرنسيون لترفعوا هذا التمثال المهين للمصريين؟!! ولنستكمل في العدد القادم بمشيئة الله. [email protected]