اليوم.. جامعة الأزهر تستقبل طلابها بالعام الدراسي الجديد    أول تعليق لنتنياهو على مزاعم إسرائيلية بمحاولة اغتيال حسن نصر الله    نحو 30 غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت خلال ساعتين    آخر تطورات لبنان.. الاحتلال يشن 21 غارة على بيروت وحزب الله يقصف شمال إسرائيل    «أنا وكيله».. تعليق طريف دونجا على عرض تركي آل الشيخ ل شيكابالا (فيديو)    التحويلات المرورية الجديدة بعد غلق الطريق الدائري من المنيب تجاه وصلة المريوطية    طعنة نافذة تُنهي حياة شاب وإصابة شقيقه بسبب خلافات الجيرة بالغربية    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    بحضور مستشار رئيس الجمهورية.. ختام معسكر عين شمس تبدع باختلاف    وزير الخارجية: تهجير الفلسطينيين خط أحمر ولن نسمح بحدوثه    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 33    «مرفق الكهرباء» ينشر نصائحًا لترشيد استهلاك الثلاجة والمكواة.. تعرف عليها    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    ضياء الدين داوود: لا يوجد مصلحة لأحد بخروج قانون الإجراءات الجنائية منقوص    المتحف المصري الكبير نموذج لترشيد الاستهلاك وتحقيق الاستدامة    الحكومة تستثمر في «رأس بناس» وأخواتها.. وطرح 4 ل 5 مناطق بساحل البحر الأحمر    إيران تزامنا مع أنباء اغتيال حسن نصر الله: الاغتيالات لن تحل مشكلة إسرائيل    حكايات| «سرج».. قصة حب مروة والخيل    تعرف على آخر موعد للتقديم في وظائف الهيئة العامة للكتاب    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    عاجل - "الصحة" تشدد على مكافحة العدوى في المدارس لضمان بيئة تعليمية آمنة    وزير الخارجية: الاحتلال يستخدم التجويع والحصار كسلاح ضد الفلسطينيين لتدمير غزة وطرد أهلها    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    عمر جابر: تفاجأنا باحتساب ركلة الجزاء.. والسوبر شهد تفاصيل صغيرة عديدة    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    التصريح بدفن جثمان طفل سقط من أعلى سيارة نقل بحلوان    بدءاً من اليوم.. غلق كلي للطريق الدائري من المنيب اتجاه المريوطية لمدة شهر    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    أمريكا تستنفر قواتها في الشرق الأوسط وتؤمن سفارتها بدول المنطقة    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    أحمد العوضي يكشف حقيقة تعرضه لأزمة صحية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    «عودة أسياد أفريقيا ولسه».. أشرف زكي يحتفل بفوز الزمالك بالسوبر الإفريقي    "الصحة اللبنانية": ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت إلى 6 قتلى و91 مصابا    استعد لتغيير ساعتك.. رسميا موعد تطبيق التوقيت الشتوي 2024 في مصر وانتهاء الصيفي    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    «زى النهارده».. وفاة الزعيم عبدالناصر 28 سبتمبر 1970    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تحرك جديد.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    الأزهر للفتوى: معتقد الأب والأم بضرورة تربية الأبناء مثلما تربوا خلل جسيم في التربية    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع التاريخي الحضاري لقناة السويس الجديدة: التحدّي.. والاستجابة.. !
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 10 - 08 - 2014

أهو مشروع تاريخي حضاري بالدرجة الأولي، أم مشروع اقتصادي تجاري بالدرجة الأولي؟ تنتهي الاجابة علي هذا السؤال إلي زاويتين مختلفتين ربما حدّ التناقض. فحسابات المشروع الاقتصادي التجاريّ هي حسابات تكلفة مادية خالصة، وحسابات عوائد مادية خالصة، وبين حسابات التكلفة والعوائد، تتحدد قيمة المشروع، ودرجة القبول به، والتحمْس له، والمشاركة فيه.
أما حسابات المشروع التاريخيّ الحضاريّ، فهي حسابات ذات طبيعة استراتيجية خاصة، قبل أن تكون ذات طبيعة اقتصادية خالصة، فهي تعبّر عن حالة يقظة وطنية حادة، تعيد صياغة خرائط الجغرافيا الطبيعية داخل الحدود، في مواجهة محاولة لإعادة صياغة الخرائط الاستراتيجية في الاقليم، لتبتني فوقها جسورًا يمتد عليها جهد بشري ثري وخلاّق، يعيد فرض الإرادة الوطنية بفعل جسور، في بناء المستقبل، وتجديد الجغرافيا، وبالتالي تحديث وتصعيد المكانة قبل المكان.
لذلك فعوائد المشروع التاريخي الحضاري، لا تخصّ نفرًا، أو شركة، أو مؤسسة، أو نظامًا حاكمًا، وإنما تخص كيانًا وطنيًا بكل مكوناته ومفرداته وقواه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ربما بغير استثناء وبغير تمييز.
هو إذن منذ البداية إلي النهاية مشروع تاريخي حضاريّ، وينبغي أن يظل كذلك في منظور الوعي والرؤية والتناول والشرح، وفي منظور البحث، وفلسفة التاريخ، وفي منظور حسابات السياسة والاقتصاد والمجتمع كما هو في منظور الأمن القومي، وفي منظور الاعلام أيضًا، قبلهم جميعًا، لأنه تجديد لوجه مصر الحضاري، وتحديث لرسالتها التاريخية، وتعميق لدورها الاقليمي، وتصعيد لمكانتها الدولية. إنه باختصار فعل وطني جسور لتجويد الموقع، وتجديد الوظيفة والدور والمكانة.
'1'
ما هو المشروع التاريخي الحضاري؟
إنه دون تعريف ضيّق، النهوض بمهمة وطنية كبري تمتزج في بنيتها أربعة عناصر رئيسية في حالة تامة من التوافق، هي التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا والإرادة الوطنية، وعندما نتحدث عن الإرادة الوطنية أولاً قبل التاريخ والجغرافيا، والاستراتيجيا، فإننا نتحدث مباشرة عن نبض مصر الذاتي، وعن قانون حياتها الأعلي الذي صاغ المصريون حضارتهم في كل مراحلها ومستوياتها وتجليّاتها وفق منطوقه الأقرب إلي نظرية 'توينبي' عن 'التحدّي والاستجابة'، فقد كان التحدي الذي يواجه مصر دائم التجدد، كما كانت استجابتها له دائمة الحضور، فلم تتوقف مصر عبر عمرها الذي يمتد آلاف السنوات عن القبول بمنازلة التحديات، وعن تطويعها وترويضها، وفرض إرادتها عليها، لقد روّضت النهر عندما كان وحشًا كاسرًا، وزادت في استئناسه بالسد العالي في تاريخها الحديث، وأخضعت البيئة وأعادت تشكيلها مرات ومرات، وامتدت أناملها إلي الحجر فأفرغت فيه نبضًا حيّا أدامته قرونًا بعد قرون.
وواجهت وقاتلت كل موجات الجراد الصحراويّ الذي ظلّ طامعًا في الماء والخضرة وردّتها علي أعقابها، فلم تكن مصر في كل مراحل حياتها الممتدّة وطنًا للقعود أو الدِعة، وإنما ظلت وطنًا للجهد والعرق والدم، وإذا كان بناء الحضارة قد استمد طاقة دفعه من روح مصر، ومن عقلها ومعارفها وعلمها الوافر، وفكرها الاستراتيجي، الذي استبق التعريف الحديث لكلمة الاستراتيجية بآلاف السنين، فقد صنعته سواعدها، وصاغته أكفها، بالجهد السخيّ، والدم الساخن، والعرق الغزير. فهذا وطن لم تستغرقه حياة الوفرة وإن استغرقت بعض هوامشه، ولم تشغِّله حياة الدعة، وإن ظلت بعض زوائده، وهذا وطن محارب بالمعني الشامل لكلمة الحرب، التي هي أوسع بكثير من التعبير المباشر عن القتال وإن كان القتال من أوضح مفرداتها. وهذا وطن قد تكون طاقته الروحية، أكبر من طاقته العقلية، وقد تكون طاقته العقلية أكبر من طاقته البدنية، وقد تكون طاقته البدنية أكبر من طاقته المادية، ولكنك في لحظة الاستجابة للتحدي، لا تستطيع أن تفرق بين مستويات هذه الطاقة المختلفة، التي تعمل جميعها كأنها مولّدات هائلة في دائرة كهربية واحدة، علي مقاس وطن. قادرة علي أن تحقق صنوفًا من الابداع تعد ضربا من الخوارق والمعجزات.
الاستجابة للتحدي إذن هي قانون مصر الأعلي، وهي قانونها في كل معركة ومواجهة، وهي أشد ما تكون حاجة لأن تكون هذه الاستجابة الحضارية، لهذا التحدّي الجديد، هو فارسها وفرسها، سيفها ودرعها.
'2'
قبل أكثر من عقدين قدّمت لي هيئة قناة السويس واحدة من أثمن الهدايا التي تلقيتها في حياتي، فقد دعتني لإقامة كاملة علي ضفاف القناة لمدة أسبوع كامل، كان أهم ما فيها برنامج مكثْف لمسح القناة مجري ومرسي وشواطئ وتاريخًا وخرائط ووثائق اكتمل بحوار خلاق مع قيادتها. ولقد كان انطباعي وقتها انني تلقيت فرصة لأن أغتسل في بحر من الوطنية والمعرفة والعلم والإدارة، بل لقد انتابني شعور عميق خلال أيام إقامتي أنني علي جبهة متقدمة لحرب من نوع فريد، حتي انني أحسست أن القناة نفسها تعمل بمنطق أنها لاتزال تعيش في أجواء التحدي التي صاحبت معركة التأميم، كان كل شيء خاضعًا للمتابعة وللحساب بدقّة مذهلة، من أجواء حرب الناقلات العملاقة حدّ التنصت علي كل سفينة يتم بناؤها في أي ميناء في العالم من حيث الحمولة والسعة، فقد كان المنطق السائد وقتها أنه كلما زاد حجم الناقلة قلت تكلفة البناء بالنسبة للطن وبالتالي بالنسبة للتشغيل والنقل إلي أجواء صراع النقل البحري من حيث الطرق البديلة، والتحول إلي نظام الأنابيب الناقلة للبترول، إلي خطط الاستجابة لتحديات حرب الناقلات العملاقة وصراع النقل بخطط متجددة لتعميق القناة وتوسيع المجري الملاحي، ولم تكن الحسابات التي اطلعت عليها يومها غير معادلات دقيقة صاغتها عقول وطنية كبيرة علمًا وقدرة واتصالا بنبض كل جديد من المعرفة والعلم والمعلومات في العالم الكبير من حولها حتي انني قلت لنفسي بصوت مسموع: لو أن مصر تدار بالمنطق والمعرفة والجهد الذي تدار به قناة السويس، لاغتنمت فرصها المبدّدة، واعتصرت طاقتها الهائلة ولتبدلت من حال إلي حال ومن واقع إلي آخر.
'3'
كانت القناة إذن طوال الوقت في حرب مع المتغيرات الكبيرة من حولها في الاقليم والدنيا الواسعة، وفي اشتباك منظم مع التحديات البازغة في دائرة تطول بحار العالم ومحيطاته ببوارجها وسفنها وبضاعتها التي تواصل الرحيل من مكان إلي مكان، فقد ظلت مركز ثقل الاستراتيجية البحرية في العالم، مثلما ظل تاريخها الوجه المباشر لتاريخ مصر الحديث وفي القلب منه تاريخها العسكري، وإذا كانت حرب أكتوبر المجيدة هي قمة جبل المواجهة والتحدي فمن خلفها تترامي تلال واسعة من الحروب والوقائع والحقائق.
من حرب عام 1967 إلي العدوان الثلاثي في عام 1956، ومن خلفهما أجواء الحرب العالمية الثانية، ومعارك الحرب العالمية الأولي من محور العلمين غربًا إلي محور القناة شرقًا، بالحملة التركية التي سعت إلي عبورها ولحقت بها هزيمة ساحقة، ثم إلي المواجهات البطولية في معركة التل الكبير عقب الانزال البريطاني في الإسكندرية عام 1882 وبعدها معركة حفر القناة نفسها التي قدمت مصر علي مذبحها مائة وعشرين ألف شهيد من فلاحيها المعدمين، حتي لكأنك تري إذا ما رق حسك التاريخي وأنت واقف علي ضفة القناة. أن ما يجري فيها، بحكم معارك البطولة والفداء فوقها وحولها، ليس ماءً باردًا، وإنما دم مصري لايزال دافئًا.
بعد عدوان عام 1956 كان هناك مشروع لعبد الناصر يستهدف توسيع القناة ليسمح بعبور الناقلات حمولة 70 طنًا مع إجراء جراحة للقناة تسمح بازدواجها تصبح الحركة فيها ذات اتجاهين، ولكن عدوان عام 1967 لم يسمح له بأن يكتمل، وكأنه كان أحد أسباب العدوان المباشرة، وعندما بدأت في عام 1975 مراحل جديدة لتجديد القناة، كانت ناقلات حمولة 70 طنًا قد انتهت، ولهذا كان هناك تحدٍ جديد فرض نفسه علي خطط التوسيع الثلاث التي كان أمد كل منها خمس سنوات، لكن الشاهد مع ذلك أن ايراد القناة قد زاد بين عامي 1960 والعام الأخير بنسبة قدرها 100000%، فقد كان ايرادها عام 60 هو 50 مليون جنيه، أما الآن فهو يزيد علي 5 مليارات جنيه، بينما كان نصيب مصر من دخل القناة عام 1955 قبل تأميمها هو مليون جنيه فقط لا غير لا يمثل غير 3% من دخلها في ذلك الوقت.
غير أننا في هذه المرة لسنا بصدد توسيع أو تعميقًا أو تحديث للقناة، وإنما بصدد بناء قناة سويس جديدة قولاً وفعلاً، وإن كره أذناب 'كارنجي'، وروجوا سمومهم في نيويورك تايمز وغيرها، واعتبروا ذلك نوعًا من المبالغة، بل واعتبروا زورًا وبهتانًا أن المشروع برمته مجرد دعاية قومية لنظام جديد!
'4'
لم تجلس مصر يومًا في غرفة مغلقة، ولم تحبس نفسها في شارع معزول، فإذا لم تكن دولة مصدرة للبضائع بالدرجة الأولي، فهي الدولة الأولي في تصدير الحضارة والفكر، انها قلب ونواة الحضارة الإنسانية منذ بواكير التاريخ وهي المشتل الذي نبتت فيه وتفتحت كل زهورها، وهي المشعل الذي أضاء طريق البشرية عندما كان غيرها مازال يعيش في أحراش الغابات، وكهوف الجليد، كما كانت وستظل موقعًا حاكمًا في الاستراتيجيات البحرية، وممرًا ومعبرًا لا غني عنه بحسابات الوقت والتكلفة في قلب التجارة الدولية، وأثر ذلك كله مازال باقيًا وحاضرًا، ومازال قابلاً للتنفس، ولذلك كان عزل مصر وتحجيمها، واخراجها من معادلات القوة في الاقليم، هدفًا استراتيجيًا موحدًا لكل قوة دولية سعت للسيطرة بأدوات الاستعمار القديم، أو بأساليب الامبريالية الحديثة، ولهذا يبدو لافتًا للنظر أن تتقدم مصر بكل شجاعة وجرأة وثبات في وقت شدة وعسر، وفي وضع اقليمي متعدد الضغوط، وفي بيئة اقليمية مشبعة بالزلزال والبراكين، وفي مناخ دولي عاصف، تومض فيه التهديدات الاستراتيجية من كل صوب، لتجدد شباب موقعها الاستراتيجي الحاكم، بعمل من أعمال البطولة الجماعية، لتؤكد أنها لن تقبل التخلف الحضاري، ولن تقع في أسر العجز السياسي، ولن تدخل في مرحلة الشيخوخة، وأن وزنها الاستراتيجي في كل الأحوال، ليس قابلاً للنقصان، وإنما قابل للزيادة.
إن مصر تتقدم لتعيد تشكيل خريطتها الطبيعية بمشروع حضاري، إلي جواره مشروعات أخري لها نفس الطابع، في مواجهة واضحة مع استراتيجية هجومية مضادة، تعيد تشكيل خريطة المنطقة، بأعمال شيمتها الهدم لا البناء، وتقويض الحضارة، لا نشرها، ودفع سيول من الفوضي، لانتاج بحور من القتل والخراب والدم في طرقات الاقليم، ومصر بذلك إنما تعيد بناء استراتيجيتها الدفاعية، وهي تحتمي بذاتها، وتعتصم بصخرتها، وتقوي مناعتها، وتجدد خطوط وخنادق دفاعها التاريخية.
لقد كان المطلوب لمصر، أن تخرج من التاريخ، وأن تجلس في متحفه لخمسمائة عام، ولكنها بدلاً عن ذلك، تخطط لنفسها لكي تبقي في التاريخ، صانعة لا مصنوعة، قائدة لا مقودة، فاعلة لا متلقية، متحدية لا متقاعسة، واقفة لا قاعدة، مالكة لا أجيرة.
'5'
نحن أمام مشروع قناة سويس جديدة، ليس في ذلك مبالغة أو تجميل، وهو مشروع تدخل به مصر في صلب مستقبل توزيع القوي الجديدة في الشرق الأوسط الجديد، باستحقاق حضاري مجيد، وهذا هو المعني الأكثر عمقًا للجديد فيه، فهي قناة جديدة ليس بدلالات الأرقام المعلنة، والتي تتضمن قناة جديدة بطول 72 كم من بينها أعمال توسيع من داخل البحيرات المرة لمسافة 37 كم إلي منطقة البلاح، إلي جانب أعمال التعميق في اتجاه القناة الغربي، أو تقليص زمن رحلة السفن في القناة إلي الحدود الدنيا بقطعها المسافة دون توقف فالقناة الجديدة أكثر شمولاً من أعمال الحفر والتوسيع والتعميق وحتي من القدرة الاستيعابية للقناة التي يمكن أن تزيد من إيراداتها بنسبة 259%، وإذا كان هذا ما يركز عليه خطاب الاعلام حول المشروع، فإنه يثير اهتمام فريق كبير من المهندسين والمقاولين والمحاسبين والمهتمين، ولكن لا يثير اهتمام الرأي العام بالدرجة المطلوبة، فتصوير المشروع علي أنه مجرد حفر وتوسيع وزيادة في الدخل القومي، وفرص عمل مؤكدة، حتي إذا كان له تأثير واضح فهو محدود فوق أنه مؤقت، لأننا في النهاية علي هذا النحو، إنما نقدم للناس مشروعًا اقتصاديًا تجاريًا رابحًا، قد يكون لهم نصيب من ارباحه، وهي في كل الأحوال أرباح مؤجلة.
إن مشروع السد العالي مثلاً لم يقدم للشعب علي هذا النحو، فقد تم تقديمه علي أنه استجابة وطنية خالصة ذات محتوي تاريخي وحضاري وتحرريّ، في وجه تحدّ وجوديّ، يستهدف الزرع والنسل وكافة أوجه الحياة فضلاً عن الإرادة الوطنية المستقلة. ولهذا تغلغلت التعبئة من حوله في قلوب عامة المصريين قبل عقولهم، والمدهش في ذلك أن ثمة عروة وثقي بين قناة السويس وبين السدّ العالي، فعدوان عام 1956 لم يكن من أجل القناة وحدها، وإنما كان من أجل السد العالي أيضًا، بل إن مشروع السعد العالي نفسه، قد تلقي تمويله في هذه الملحمة الوطنية من عوائد قناة السويس، حتي ليعدّ ابنها البكر، وصنوها القريب، ولا شك أن تلك الصلة بين السد العالي والقناة لاتزال قائمة فما يستهدف مصر علي شرفة القناة، وجبهتها الواسعة ومحورها الاستراتيجي الذي يمسك بيد البحر الأبيض، ويد البحر الأحمر في وحدة فريدة، هو نفسه ما يستهدف ما وراء السد العالي، وفي قلب مصر النيلية، وهو أمر بدوره وثيق الصلة بمشروع توشكي الذي تعرض لحرب ضروس.
عندما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي ببساطة عميقة، إنه يحسد عبد الناصر لأن الاعلام كان معه، انبرت إحدي الصحف تعاتبه علي قوله في مداهنة رخيصة، علي أساس أنه لم يمتلك التفسير الصحيح، الذي تفضلت بتقديمه، وهو أن الاعلام كان مع عبد الناصر لا حبًا فيه ولكن رعبًا وخوفًا منه، وهذا حسب قولها لا ينطبق علي الرئيس السيسي علي الاطلاق، وقد لا يعنيني في هذا التفسير الذي يشع جهلاً وضغينة، وضع صورة عبد الناصر في إطار من الديكتاتورية، فهو أمر لم يعد يستحق عناء التعليق، ولكن الذي يعنيني حقًا هو ذلك الحس المداهن المتسول الغادر الذي يبحث عن دفاع مزوّر عن اعلام ساقط، فلا يجد سبيلاً إلي ذلك، إلا بتحويل أجيال من الكتاب والشعراء والمثقفين والمبدعين والفنانين والموسيقيين والمغنين العظام، الذين أنشدوا وكتبوا ولحنوا وغنوا بنبض قلوبهم، في أوج معارك التاريخ الوطني، إلي مجموعة من الجبناء والمذعورين، أبدعوا وأنشدوا وغنوا عن رعب وخوف ومذلة، لا عن تضحية وحب وولاء، ووطنية مصرية تشع كبرياء وابداعًا وأصالة ونبلاً.
أما المقارنة بين إعلام اليوم وإعلام الأمس، فإنها ليست واردة، فقد كان اعلام الأمس، اعلام دولة يشكل بعدًا حيويًا في استراتيجية وطنية شاملة، أما إعلام اليوم، ليس اعلام دولة، ولكنه اعلام سوق، يشكل بعدًا حيويًا في مصالح شخصية مغلقة.
'6'
مشروع تاريخي حضاري دون شك، وقناة سويس جديدة دون أدني مبالغة، وهي جديدة بفعل عناصر قائمة في المشروع وفي الواقع المباشر، وفي البيئة الاقليمية والدولية، يحتاج حصرها إلي ما هو أوسع من حديث وأكبر من مقال، غير أن الاشارة تكفي إلي تحول وظيفي في دور القناة، فلن تكون مجرد أداة لتجارة المرور، لن تكون جابية ولكن صانعة، لن تكون ممرًا، وإنما موقع للمشاركة في أساسيات الصناعة والتجارة والملاحة، فوق مساحة تمتد عبر 'لاند سكيب' واسع وعميق، تستنبت فيه أفضل الشتلات في الصناعة والتجارة والتصدير والتخزين، واصلاح وبناء السفن، فضلا عن أنها لن تعاود الوقوف علي ساق واحدة، أو ضفة واحدة، وإنما علي ساقين وضفتين، كما أنها ستساهم بقوة في إعادة توزيع الكتلة السكانية، ليس في اقاليم القناة فحسب، ولكن في قلب سيناء، فتحت اضلاع القناة الجديدة، سوف تمتد يد مصر بقوة عبر سبعة أنفاق وممرات واسعة لعبور السكك الحديدية والناقلات والبشر، وسوف يمتد ظل القناة نفسها حتي مفاتيح ومحاور سيناء الاستراتيجية الثلاث، التي يواجه أخطرها وأهمها مركز القناة في الإسماعيلية، وهو المحور الأوسط القاطع الذي يمتد من ممر متلا في الشمال إلي الجفجافة في الجنوب، ويمتد شرقًا إلي قلب فلسطين التاريخية، بينما يعرج من الجانب الآخر إلي قلب الدلتا في مصر، ليلتقي خط الدفاع عن الدلتا عند خط القناة بخط الدفاع الأوسط في سيناء ويندمجان معًا، لا في خطين دفاعيين وإنما في منظومة دفاعية مكتملة، تفرض ظلها إلي آخر حدود مصر الدولية، ولذلك ليس غريبًا أن يكون في نسق المشروع توجه لتطوير ميناء شرم الشيخ التي تعد أهم وأخطر موقع دفاعي علي البحر الأحمر عن جنوب سيناء، وأن يكون جزءًا من بنية المشروع شق طرق تطول أكثر من ثلاثة آلاف كيلو متر، فهو عمل لبناء شرايين حديثة تضمن تدفق السلع والاشخاص والخدمات، ولكنها شرايين متعددة الوظيفة فهي إلي جانب أنها عمل حضاري للمدينة والتحديث، فإنها علي الجانب الآخر، عمل يدخل في صلب وظيفة الدفاع.
ان القناة في النهاية هي قاعدة الارتكاز ودائرة القوة وأداة الربط بين أهم قطاعين بحريين في العالم يشكلان سلسلة فقرية واحدة، هما المحيط الأطلسي والبحر الأبيض من ناحية والبحر الأحمر والمحيط الهندي من ناحية، وبينهما يتدحرج البندول الاستراتيجي بحكم عوامل ثابتة وأخري متغيرة، ولا شك أن القناة الجديدة سوف تكون بذاتها عاملاً إضافيًا لجذب البندول الاستراتيجي حثيثًا من الشرق إلي الغرب، أي من الخليج العربي وتخومه الآسيوية إلي مصر وتخومها الأوربية والافريقية، إلي جانب عوامل أخري تتعلق بدخول أفريقيا في بؤرة اهتمام أمريكي وغربي مضاعف، وتتعلق بأوضاع مستجدة في جنوب البحر الأبيض، إضافة إلي اكتشافات هائلة جديدة في حوضه الجنوبي مسكونة باحتياطيات من الغاز، تشكل بدورها، نموات مستقبلية في الثروة، وهو ما يعني أن المشروع يأتي تمامًا في موعده، ليس متوافقًا مع التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا الوطنية فحسب، ولكنه متزامن ومتوافق مع تحولات كبري في الجغرافيا الاستراتيجية للاقليم والعالم، بحكم نموات جديدة في الثروة، وأنماط مستحدثة للصراع، وإعادة بناء لخرائط الدول، وموازين القوي.
'7'
لا تتوازن مصالح الشرق والغرب أو آسيا علي جانب وأوربا وأمريكا علي الجانب الآخر في القناة كممر ومعبر، فمفتاح الاستراتيجية البحرية لروسيا والصين واليابان وكوريا وكافة النموات الصاعدة في روسيا، يوجد في القناة، وحسابات أوزان المصالح في هذا الحيزّ هي لصالح آسيا بمقدار يمكن حسابه بنسبة العبء البحري بين الولايات المتحدة وروسيا وهو يساوي أربع مرات ونصف المرة لصالح روسيا وآسيا عمومًا، وربما تكون الاستثمارات الغربية المباشرة في فضاء المشروع قابلة لأن تحقق قدرًا أكبر من التوازن، لكن الانتباه في كل الأحوال ينبغي أن يتسلح بعينين يقظتين، فهذا المشروع التاريخي الحضاري بالحجم والفعل والتأثير قابل لأن يخلق خصومًا وأعداءً لن يتورعوا عن محاولة خنقه في مهده، ولن يحجموا عن خلق المصاعب والأزمات وبث الأكاذيب والشائعات من حوله.
عملية تأمين المشروع إذن ينبغي أن تحظي بالأولوية المطلقة، ومصدر التأمين الحقيقي له هم أصحابه، وهم مجمل الشعب المصري العظيم، وعلي المشروع خطابًا وخطي أن يستحوذ علي قلوبهم، وأن ينتمي إليهم واقعًا، لينتموا إليه، حلمًا وحقيقة!
Email: [email protected]
Site : ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.