هناك مواقف مصيرية حاسمة سوف تظل شعوبنا تذكرها إلي الأبد، ومن بين أهم هذه المواقف، بل وأعظمها هي ثورة يوليو المجيدة والمباركة. تلك الثورة التي خلصت البلاد من النظام القديم القائم علي تحالف الإستعمار مع قوي الإقطاع المستبد ورأس المال المستغل، ولبناء النظام الجديد لصالح تحالف قوي الشعب المظلومة والمحرومة المتطلعة للحياة الحرة الكريمة، عبر بناء التنمية الاقتصادية وإقامة العدالة الاجتماعية ولتحقيق الحرية السياسية لتقوم بأكثر من ثورة في ثورة واحدة.. هذا علي المستوي الداخلي كما وقفت الي جانب كل حركات التحرر الوطني في إفريقيا وأسيا حتي امتدت مبادئها إلي أمريكا اللاتينية. فقد بدأت بتحرير الوطن العربي التي شاءت الظروف أن تختزن تربته ثروة بغير حدود وشاءت الأقدار أيضاً أن يقع علي مفترق طرق القارات مما جعله هدفاً للنهب وهدفاً لخطط السيطرة، وكان آخر تلك الخطط هي خطة 'سايكس بيكو' 1916، والتي نفذت بنجاح وذك لغياب الوعي وغياب الرؤية المستقبلية نتيجة لخفوت الضوء في العقول وانطماس البصيرة خلال تلك الفترة، ولأن أمة إقرأ قد عطلت أول فعل أمر نزل علي النبي وهو فعل الأمر إقرأ، فقد تكرر المشهد ولكن بمجموعة أخري من الكومبارس العربي، هذا المشهد تم تمثيله في أكثر من بلد عربي في فترة زمنية وجيزة تحت شعارات جذابة لكنها كذابة.. شعار الثورة علي الظلم والإستبداد والحرية والكرامة الإنسانية، وكانت النتيجة هي مقدمة لسايكس بيكو' أخري.. ' حتي جاء الموعد مع القدر وخرجت الملايين الهادرة من أمة إقرأ بعدما قرأت ونفذت الأمر الإلهي، خرجت في الثلاثين من يونيو لتؤكد أنها لن تسمح بتكرار ما قبل ثورة يوليو المجيدة، وأن 30 يونيو إمتداداً طبيعياً لتلك الثورة العظيمة. لكن الحق أقول، ثورة 30 يونيو كانت ثورة استباقية لتحطيم أحلام وأوهام الإستعمار القديم، بينما 23 يوليو كانت ثورة ارتدادية ضد المستعمر الذي كان موجودا بالفعل علي الأراضي العربية. ورغم هذا فإن ثورة يوليو تعتبر أم الثورات في الوطن العربي والعالم الثالث، فقد أنهت الإستعمار بجميع أشكاله الظاهر منها والخفي، وإستطاعت خلال سنوات قلائل أن تقتلع جذور القواعد الأجنبية، وبذلك أصبحت الأرض العربية للعرب فقط، حيث ساعدت ثورة الجزائر حتي خرج المحتل الفرنسي بعد إحتلال دام قرابة 130 عاماً، ووقفت بجانب الثورة اليمنية بقيادة عبد الله السلال حتي تحرر الجنوب اليمني من المحتل البريطاني، وساعدت ثورة العراق بقيادة عبد السلام عارف حتي تحرر العراق من حلف بغداد المفروض عليها من التاج البريطاني، وذلك بالتعاون مع نوري السعيد لحقده الدفين علي عبد الناصر وأفكاره التحررية بغض النظر عن إنقلاب عبد الكريم قاسم بعد ذلك بعد تحالفه مع الشيوعيين علي عارف، وساعدت ثورة البحرين ومشيخات الإمارات.. إنها حقاً ثورة عظيمة.. ثورة حققت العدالة الإجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية. وإذا كان المؤرخون والسياسيون والكتاب يرون أن الثورة لا تكتسب شرعيتها إلا بشروط ثلاث، وهي شعبيتها ووطنيتها وسلميتها، فإن الثورات المصرية عبر التاريخ بداية من ثورة 1805 ضذ خورشيد باشا الوالي العثماني علي مصر، ومرورا بثورة عرابي وثورة 19 وثورة يوليو، وانتهاءً بثورة 30 يونيو قد تحققت فيها تلك الشروط الثلاث السابقة.. والسؤال هل تلك الثورات يمكن وصفها بأنها ثورات ناجحة؟! معيار نجاح أي ثورة مرتبط بمدي تحقيق أهدافها التي خرجت من أجلها، فثورة 1805 تعتبر ثورة ناجحة، لأنها نجحت في خروج خورشيد باشا من البلاد وكان هذا هدفها، وأما ثورة عرابي 1882 لا يمكن القول بأنها ثورة ناجحة، لأنها لم تحقق أهدافها، وثورة 19 مارس 1919 فشلت في تحقيق هدفها التي خرجت من أجله وهو ' الإستقلال التام أو الموت الزوءام' فلم تحقق الإستقلال، أما ثورة 30 يونيو وثورة 52 التي تفجرت في فجر 23 يوليو فقد حققتا أهدافهما، فثورة 30 يونيو أحبطت مخططات تقسيم الوطن العربي مرة أخر، وثورة 23 يوليو حققت أهدافها التي خرجت من أجلها، وإن كان البعض يصفها بأنها فشلت في تحقيق هدفها السادس بإقامة حياة ديمقراطية سليمة، إلا أن تأخير هذا الهدف كان وراءه فلسفة كانت تقول لاحرية لجائع، ولا يمكن لعاطل أن يملك حرية التصويت، ولايمكن لجاهل أن يكون أهلا للتصويت، كما أن حرية رغيف الخبز مرتبط بحرية تذكرة الإنتخاب.. ولو سمح عبد الناصر بالحرية فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة هي وجود ثلاثة تيارات سياسية في مصر، تيار يدعو إلي التحالف مع الغرب، وهذا يمثله الإقطاعيين والرأسمالية المستغلة، وتيار يدعو إلي التحالف مع المعسكر الشرقي وهذا يمثله الشيوعيين واليساريين، وتيار ثالث يدعو إلي التحالف مع الطبقة العاملة وهذا يمثله القوي الوطنية، ولو سمح عبد الناصر بالديمقراطية لأدي ذلك إلي تناحر بين التيارات الثلاثة والوطن من سيدفع الثمن وكنا نعود مرة أخري إلي ما قبل فجر 23 يوليو وهنا ينطبق المثل الشعبي الذي يقول ' كأنك يا أبو زيد ما غزيت'. وحتي نكون منصفين فلا يمكن فصل ثورة يوليو عن الثورات التي سبقتها بغض النظر عما إذا كانت قد حققت أهدافها أم لا. وعلي أيه حال ثورة يوليو حقبة هامة سوف تظل في ذاكرة شعوبنا إلي الأبد، وستبقي تلك الحقبة في صفحات التاريخ أبد الدهر رغم كل محاولات المغرضين، وهدف تلك المحاولات المغرضة هو شطب مرحلة مجيدة من أهم مراحل مصر بل والأمة العربية جمعاء، ليس هذا فحسب بل إلغاء كل ماشكلته مصر 23 يوليو من رمز ومنارة لكل الثورات وكل حركات التحرر الوطني لا في الوطن العربي فحسب بل وفي العالم الثالث كله. نعم ستبقي ثورة 23 يوليو في الذاكرة العربية إلي الأبد وذلك لسبب بسيط وهو، أنه مازال هناك أناس منصفين شرفاء عادلين بحق أنفسهم وحق قادتهم وحق الآخرين. [email protected]