فيما تخوض الدبلوماسية المصرية هذه الأيام معركة جديدة علي مختلف جبهات العمل الخارجي دفاعا عن ثورة 30 يونيو وأهدافها التي تجسد آمال الشعب المصري تحيي وزارة الخارجية غدا السبت الخامس عشر من مارس ' يوم الدبلوماسية المصرية ' الذي يعد تجسيدا جليا لنضال أمة من أجل السيادة والكرامة والحرية. ويتوافق يوم الدبلوماسية المصرية الذي يتم الاحتفال به في الخامس عشر من مارس كل عام مع ذكري عودة عمل وزارة الخارجية المصرية بعد إعلان الاستقلال عن بريطانيا في 22 فبراير1922 وذلك إثر إلغاء وزارة الخارجية المصرية لمدة سبع سنوات بعد إعلان الحماية البريطانية علي مصر عام 1914 وتحويل اختصاصاتها إلي المندوب السامي البريطاني، حيث أبلغت الحكومة البريطانية في يوم 15 مارس 1922 الدول التي كان لها ممثلون في القاهرة بأن الحكومة المصرية قد 'أصبحت الآن حرة في إعادة وزارة الخارجية، ومن ثم فإن لها إقامة تمثيل دبلوماسي وقنصلي في الخارج'. كما يتوافق هذا الحدث الهام 15 مارس في تاريخ مصر الحديث مع ذكري غالية علي الوطن استعاد فيها سيادته الكاملة علي كامل ترابه الوطني بعد الانسحاب الاسرائيلي من طابا في مثل هذا اليوم من عام 1989. وجاء هذا الانسحاب الاسرائيلي من طابا بعد معركة ضارية خاضتها الدبلوماسية المصرية باقتدار لتعيد معها آخر حبة تراب الي أحضان الوطن. وتشير الوقائع التاريخية الي أنه منذ البدايات الأولي للتفكير في إنشاء ما أصبح فيما بعد وزارة الخارجية، منذ يونيو 1819، حين وجه محمد علي أمراً إلي 'الخواجه باغوص بك يوسفيان لتولي وظيفة الترجمان' باعتباره من متحدثي لغات عدة منها التركية والأرمنية واليونانية والإيطالية والفرنسية، لتولي الاتصال بالجاليات الأجنبية في مصر والتعامل في بعض الأمور مع 'بحر بره' 'المجتمع الدولي كما كان يطلق عليه آنذاك'، وحتي استقرار العمل بوزارة الخارجية ما بعد 15 مارس 1922، فقد احتلت الخارجية مكاناً خاصاً في الجهاز الحكومي المصري وتحت أي مسمي كانت تحمله علي مر العصور، وظلت رمزاً من أهم رموز السيادة والاستقلال الوطنيين. وهذه الحقيقة هي ما أدت إلي القرار البريطاني بالإصرار علي إلغاء وزارة الخارجية ضمن تبعات قرار إعلان الحماية البريطانية علي مصر في 19 ديسمبر 1914 كمظهر من مظاهر التبعية لبريطانيا حيث تشكلت لأول مرة وزارة حسين رشدي الثانية بدون وزارة خارجية، وفرضت الحكومة البريطانية أن يكون المندوب السامي البريطاني هو وزير الخارجية أسوة بما تم مع تونس ومراكش. ومع انتهاء الحرب العالمية الأولي في نوفمبر 1918 واندلاع ثورة 1919 طرح موضوع إعادة وزارة الخارجية المصرية كأحد أهم مظاهر استعادة الاستقلال الوطني، وقد استمر الحوار بين الجانبين علي قضية إعادة عمل وزارة الخارجية المصرية ثلاث سنوات. وطرح الأمر علي ثلاثة مراحل: الأولي: حين أشارت لجنة ملنر في تقريرها عن اجتماعات الوفد المصري برئاسة سعد زغلول واللجنة خلال شهري يونيو وأغسطس 1920 بالنص ' أدركنا ونحن في مصر أن المصريين جميعهم، والسلطان ووزراؤه في جملتهم، يرومون أن تمَثل بلادهم سياسياً في الخارج مهما اختلفت آراؤهم في المسائل الأخري، وكانوا كلهم ممتعضين من إلغائنا منصب وزير الخارجية عند إعلاننا الحماية وتسليمنا وزارة الخارجية إلي المندوب السامي البريطاني'. كما سبق أن رصد المندوب السامي البريطاني في تقرير سري له في ديسمبر 1918 نمو طموحات المسئولين المصريين إلي 'الحلول محل تركيا كأولي دول العالم الإسلامي'، وإن لم تنجح هذه المحاولة الأولي في إعادة عمل الخارجية المصرية في ظل استمرار الحماية البريطانية علي مصر، مع إصرار الجانب البريطاني علي أن تبقي إدارة جميع العلاقات الخارجية في يد بريطانيا. الثانية: إثر الإعلان البريطاني في 26 فبراير 1921 ' أن الحماية علاقة غير مرضية' بين البلدين، وإن لم يتم في إطار هذا الإعلان إعادة عمل وزارة الخارجية كذلك خوفاً من انفتاح مصر علي دول تنافس بريطانيا العظمي، وقلقاً من سعي مصر لتبوء موقعها كقوة إقليمية كبري مما قد يضر بالمصالح البريطانية، حيث أصرت بريطانيا علي عدم تضمين تشكيل وزارة عدلي باشا يكن وزارة للخارجية وذلك في الرد علي طلب تضمينها في التشكيل الوزاري متذرعة ' بأن التسليم بتعيين وزير خارجية لمصر يتعارض مع الأسس التي وضعتها وزارة الخارجية البريطانية للمفاوضات'، وحتي حين وافقت الخارجية البريطانية لاحقاً علي إعادة وزارة الخارجية قيدت موافقتها بشروط عديدة منها اشتراط الحصول علي موافقة بريطانيا العظمي علي جميع الاتفاقيات السياسية، مما أدي إلي رفض الجانب المصري الاقتراحات البريطانية وتأجيل عودة وزارة الخارجية. وجاءت المرحلة الثالثة لمساعي إعادة عمل وزارة الخارجية مع استقالة وزارة عدلي يكن في 8 ديسمبر 1921 حيث بدأت مفاوضات تشكيل حكومة جديدة علي يد عبد الخالق ثروت باشا والذي أصر في ديباجة برنامجه السياسي لتشكيل الحكومة علي 'تصريح الحكومة البريطانية بإلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر باديء ذي بدء'، ثم مباشرة'بإعادة وزارة الخارجية وتمثيل خارجي من سفراء وقناصل'. وقد قنعت بريطانيا في نهاية المطاف بأن تسعي إلي إيقاف الانفتاح المصري علي العالم من خارج مصر بدلاً من تقييد حركة وزارة الخارجية داخلياً، وهو ما انعكس في الكتاب الدوري الذي أرسلته حكومة لندن إلي كافة ممثليها في الخارج في 15 مارس 1922 فيما أسماه أللنبي ' بمبدأ مونرو البريطاني' ليبلغه السفراء البريطانيين إلي الحكومات المعتمدين لديها، وتضمن ما يلي: ' 1. سيكون للحكومة المصرية حرية إعادة إنشاء وزارة للخارجية تمهيداً لتمثيل مصر في الخارج تمثيلاً دبلوماسياً وقنصلياً. 2. لن تمد بريطانيا العظمي في المستقبل حمايتها علي الرعايا المصريين في البلاد الأجنبية إلا في حدود ما تطالبها به الحكومة المصرية وإلي حين تمثيل مصر الدبلوماسي في هذه البلاد. 3. أن إنهاء الحماية البريطانية علي مصر لن يمس الأوضاع القائمة بالنسبة للدول الأخري في مصر بأي تغيير. 4. أن رخاء مصر وسلامتها ضروريان لأمن الإمبراطورية البريطانية، ولذلك فإنها ستحتفظ علي الدوام بالطابع الخاص للعلاقات بينهما من حيث إن هذا الوضع مصلحة بريطانية قصوي، وقد أوضح الاعتراف البريطاني باستقلال مصر وسيادتها هذا الوضع. 5. بناء علي هذا المبدأ ستعتبر محاولة أي من تلك الدول التدخل في شؤون مصر عملاً عدائياً، كما ستعتبر أي عدوان علي الأراضي المصرية عملاً تعاقب عليه بكل الوسائل التي تملكها'. كما تم إبلاغ ممثلي الدول الأجنبية في مصر يوم 15 مارس 1922 'أن الحكومة المصرية قد أصبحت الآن حرة في إعادة وزارة الخارجية، ومن ثم فإن لها إقامة تمثيل دبلوماسي وقنصلي في الخارج'، وصدر منشور يوم 16 مارس 1922 موجه لممثلي الدول الأجنبية في مصر لإبلاغهم بتعيين عبد الخالق ثروت باشا وزيراً للخارجية وبأن اتصالاتهم في المستقبل سوف تتم مباشرة من خلاله. وكان أول مقر لوزارة الخارجية بعد عودتها للعمل هو قصر البستان بحي باب اللوق بوسط القاهرة، واستمر عمل عبد الخالق ثروت وزيراً الخارجية مع مجموعة محدودة في تصريف أعمال الوزارة لمدة عامين علي نفس النظام الإداري الساري قبل 1914، حتي تم إصدار أول قرار بتقسيم وتنظيم إدارات وزارة الخارجية في 4/8/1923 إلي 7 أقسام، تلاه قرار جديد في 29/11/1925 بتحديد اختصاصات إدارات الوزارة وتوزيع الأعمال عليها، ثم توالت بعد ذلك القرارات والقوانين التي أصبحت تحكم العمل في السلك الدبلوماسي والقنصلي ويجري تطويرها بما يتلاءم مع تطورات العصر والمتطلبات المتزايدة والمتنوعة للعمل الدبلوماسي والقنصلي. وفي لمحة سريعة عن تطور مستوي التمثيل الأجنبي في جمهورية مصر العربية، والتمثيل المصري في الخارج فإن البداية كانت قبل عام 1914 حيث انحصر التمثيل الخارجي في مستوي وكيل أو قنصل عام، ثم بعد إعلان 1922 وحتي عام 1936 توقف مستوي التمثيل للبعثات الأجنبية في القاهرة عند درجة وزير مفوض ووقفت بريطانيا ضد أية محاولات لرفع مستوي التمثيل إلي درجة سفير، ولم يتغير الوضع إلا بعد التوصل إلي معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا العظمي في 26 أغسطس عام 1936 والتي نصت مادتها الثانية علي ' أنه يقوم من الآن فصاعداً بتمثيل صاحب الجلالة الملك لدي بلاط جلالة ملك مصر وبتمثيل صاحب الجلالة ملك مصر لدي بلاط سان جيمس سفراء معتمدون بالطرق المرعية'. أما بالنسبة لتطور حجم التمثيل الدبلوماسي المتبادل، فقد كان في القاهرة غداة إعلان استقلال مصر يوم 28 فبراير 1922 ممثلون لسبع عشرة دولة بصفتهم وكلاء وقناصل عموميين، تطور خلال الفترة من 1922 حتي انضمام مصر إلي عصبة الأمم إلي 26 دولة، وتوالي بعد ذلك افتتاح السفارات والقنصليات ومكاتب المنظمات الدولية والإقليمية في مصر لتبلغ حالياً نحو 240 بعثة دبلوماسية في القاهرة التي أصبحت واحدة من أكبر مراكز استقبال التمثيل الدبلوماسي في العالم. وبالنسبة للتمثيل الدبلوماسي المصري في الخارج، فقد بدأت أولي خطوات السلك الدبلوماسي والقنصلي المصري بالخارج بأربع بعثات فقط لحين تشكيل الكوادر اللازمة من رؤساء بعثات وأطقم دبلوماسية وإدارية، حيث صدر أول مرسوم ملكي في 24 سبتمبر عام 1923 بتعيين مندوبين فوق العادة ووزراء مفوضين: عبد العزيز عزت باشا في لندن، محمود فخري باشا في باريس، أحمد زيور باشا في روما، وسيف الله يسري باشا في واشنطن. ومع اتساع رقعة العلاقات المصرية بالعالم الخارجي وتشعبها تزايدت أعداد الممثليات المصرية في الخارج حيث بلغ عددها في عام 1936 حوالي 57 ممثلية 'تنوعت بين 23 مفوضية أو سفارة، واثنتي عشر قنصلية عامة، وواحد وعشرون قنصلية ومأمورية واحدة'، وتزايدت هذه السفارات مع اضطراد العلاقات المصرية الخارجية وزيادة حجم المصالح المصرية وسفر المواطنين المصريين إلي مختلف أنحاء المعمورة. ويضم السلك الدبلوماسي والقنصلي عناصر مشهود لها بالمستوي الرفيع والمتميز الذي يليق بالمدرسة الدبلوماسية المصرية، ويتم تعيينهم في الوزارة وإيفادهم للخارج عبر مرحلتين مختلفتين من الامتحانات التحريرية والشفوية ويعاونهم في ذلك طاقم مالي وإداري علي درجة عالية من الكفاءة.