قد تسير ثورة بلا رأس مسافة ميل أو ميلين قبل أن تصطدم بجدار واقع اجتماعي بائس أو تقع في بالوعة صرف سياسي فتتحول علي إثر الصدمة أو السقوط من جدار حماية إلي أيقونة بؤس لا حول لها ولا إرادة، وهو بالضبط ما حدث في ثورات الربيع المزعومة من ليبيا إلي اليمن، مرورا بمصر وسوريا. وتبقي الخضراء وحدها عصية علي تسريبات الإعلام وقنابل الغاز وزجاجات المولوتوف، تبحث في فضاء اجتماعي مشوش عن إشارة جديدة لبث روح ثورة أقسم مدشنوها فوق جثمان البو عزيزي أن تكتمل. وهكذا ينتصر النموذج علي ظله، وتعود شعلة الغضب إلي مسقط حرائقها، وتبقي تونس الملهمة أيقونة لامعة في رأس تاجنا الثوري المعاصر وعلما يهتدي به من تبقي من ثوار في بلاد غادر الربيع ميادينها دون أن ينظر خلفه. وعلي من يتطاول علي وقائع سردي هنا أن يراجع دفاتر ما بعد الثورة ليعلم أن في تونس رجالا صدقوا ما عاهدوا الميادين عليه، منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر، لكنهم لم يغيروا أقوالهم أمام محاكم التاريخ التي تعتد بالأفعال ولا تهتم بالأوراق والصور كما تفعل محاكمنا الموقرة عادة. أما نجما المرحلة بلا منازع، فهما فارسان من أقاصي اليمين المتشنج واليسار المتفرنج، رجلان لم يجمعهما يوما إلا العداء فوق كل الطاولات ومن تحتها، لكنهما استطاعا رغم ذكرياتهما المؤلمة أن يقفزا فوق محيط الذكريات دفاعا عن قسم خشيا أن يحنثا به ذات ثورة. ولأجل الخضراء، تصافح رجلان ظنا كل الظن أن لا تلاقي في عالم السياسة أو في رحاب الدين. فما أن أحس الباجي قائد السبسي زعيم حزب نداء تونس بحرارة الواقع التونسي وبأحلام التونسيين البسطاء تتبخر فوق مرجل الثورة وتدور في فراغ عدمي مقيت، حتي مد بساطه علي الهواء مباشرة لغريمه اللدود الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية ليتصافحا تلبية لنداء الحاجة. بين حزب نداء تونس العلماني وحزب النهضة الإسلامي، كما يشهد أهل تونس والمتابعون للشأن التونسي ما بينهما من تاريخ مشحون بالبغضاء والمقت، لكن هذا لم يمنع رجلا شغل الرأي العام في تونس علي مدار عقود، وشغل أهم ثلاث وزارات في بلاده بين عامي 1963، و1991 أن يخاطب رجلا حوكم في عهده ثلاث مرات، وصدر الحكم في اثنين منهما بالسجن مدي الحياة قائلا: 'إنك مسئول عن هذا- يقصد الوضع المتردي في تونس - وأنا أدعوك لتكون جزءا من الحل.'. كما لم تمنع مرارة النفي رجلا في قامة الشيخ راشد الغنوشي أن يتجاوز عن قسوة المهجر وأن يتناسي مرارة اثنين وعشرين عاما قضاها في بريطانيا محروما من تأشيرة دخول لبلد كانت له قبل أن يحكمها السبسي وحزبه. لم تمر إلا عشرة أيام عجاف حتي هاتف الشيخ الغنوشي خصمه اللدود وطار خلفه إلي فرنسا استجابة لنداء تونس للقاء لم يكن أشد المنظرين تفاؤلا يضعه علي جدول تخميناته. وأخيرا، أسقط الزعيمان الخيارات المرة ووضعا الثورة التونسية من جديد علي طاولة الممكن، بعد أن وضعتها الأحداث الأخيرة في مهب رياح نكده. فقد تحولت تونس بعد فوز الإسلاميين هناك إلي ساحة كر وفر وتردي أمني واقتصادي هائل بين شباب ظن أنه وقود الثورة، وآخر ظن أن بلاده اختطفت علي حين غرة من أهلها وسقطت في حجر من ليس لذلك بأهل.