تسجل مذكرات الشيخ أحمد حسن الباقوري 'بقايا ذكريات' اعترافاته ورواياته كشاهد عيانٍ عن حجم الفساد والصراع الذي استولي علي الإخوان المسلمين، من أجل الاستحواذ علي السلطة، والاستئثار بالحكم المطلق لمصر، ولو علي حساب الدين والوطن! كما أن الشيخ روي كيف تم فصله تعسفياً من الجماعة، بلا محاكمةٍ عادلة، ومن دون أية جريرةٍ اقترفها! فقد سيطرت علي الجماعة.. لغة العنف، والقهر، والفصل، والمصادرة، والاغتيال.. تلك اللغة التي لا تعرف الجماعةُ سواها! كما اعترف الباقوري بمسئولية الإخوان عن محاولتهم الفاشلة لاغتيال عبد الناصر في المنشية عام 1954م! وأشار الباقوري إلي أنَّ حسن البنا كان قد أوصي باختياره ليكون مرشد الإخوان من بعده، ولكنَّ الجماعة عصفت بوصية مؤسسها، فعيَّنت الهضيبي بدلاً منه! أفعال الجماعة.. عصفت بالبنا! يروي الشيخ أحمد حسن الباقوري- وكيل جماعة الإخوان المسلمين- عن الأيام الأخيرة في حياة حسن البنا، قُبَيل اغتياله في عام 1949م، وكيف أن الجماعة باتت مجرد طللٍ تسكنه الأشباح، بعد أن حادت عن طريق الحق، فيقول: 'لقد توالت الأحداث، وضاقت الأماكن بالإخوان المسلمين، ومرشدهم حسن البنا.. وامتلأت بهم المعتقلات، ولكنَّ النظام ترك الإمام/ البنّا مُطلَق السراح، ليسهل اصطياده.. وقد كنتُ معه، في دار الشُّبّان المسلمين، نتحدث حديثه المعتاد، الذي يحمل القلق علي الإخوان والبلد.وكان دائماً في تلك الأثناء، يشعر باقتراب شئ، لا يُفسره، ولا يهابه أيضاً، وكأنَّ الرجل أُعِدَّ لهذا الاستشهاد! وكنتُ معه علي الباب، ووقفنا في انتظار سيارة تاكسي، ولكنْ تذكَّرتُ أنني لا أملك إلاَّ سبعة قروشٍ، في جيبي.. واستأذنتُ لأمشي، حتي لا يُحْرَج هو من أجر التاكسي، وتوجَّهتُ لأركبَ القِطار، من محطة باب اللوق.. وحينما وصلتُ إلي بيتي، كان أستاذنا الشيخ/ عبد اللطيف دراز قد أنبأ زوجتي بخبر استشهاد السيد الإمام! فبكيتُ، كما لم أبكِ أحداً من قبل، وسأظلُّ ما حييتُ أبكي فيه العظمةَ، والعبقريةَ، والتضحيةَ، والعِلمَ، الذي كان يعطيه للناس'! عبد الناصر.. والإخوان! وفي كتابها 'الباقوري ثائر تحت العِمامة' تُورِد الكاتبة الصحفية/ نعم الباز، قول الشيخ/ الباقوري عندما سُئِل عن علاقة الثورة بالإخوان المسلمين؟ فقال: أعرف أن الأخ/ كمال الدين حسين، والأخ/ حسين الشافعي، والمرحوم/ أنور السادات، كانوا علي جهة اليقين متأثِّرين بالإخوان، ويُصِرُّون علي حضور دروس الثلاثاء، ولكنَّ القصة التي لا أنساها أبداً، أنني حين وُلِّيتُ الوزارة في عام 1952م، زرتُ دار الرئيس عبد الناصر، وكانت زيارتي إياه في حجرة صغيرةٍ، علي يسار الداخل إلي بيته، ودعاني إلي الجلوس علي كنبةٍ صغيرةٍ، لا تحتمل أكثرَ من شخصين أو ثلاثة، ثمَّ قال لي: هنا كان يجلس الإمام الشهيد/ حسن البنا! وأذكر أنني- يومها- قلتُ: أرجو أن يكون مجلسي هذا مُذكِّراً لكَ، بما عسي أن تكون قد ضِقتَ به يوماً من الإخوان المسلمين! فقال الرجل: لا، وستري يوماً أنني لم أكن عدواً للإخوان المسلمين! ويحكي الباقوري أنه كان ليلة قيام ثورة 23 يوليو 1952م في درس الثلاثاء بمقر الجماعة 'وكان مولانا المرشد/ حسن البنَّا قد لحق بالرفيق الأعلي، وخلفه المستشار/ حسن الهضيبي. وكنتُ مسئولاً عن قسم 'السُّنّة' وطلب مني الهضيبي أن أدعوَ للملك، ولولي العهد! فتعجَّبتُ، ثم رفضتُ ذلكّ ووجدته بعد ذلك، يقول لي: إنني رفضتُ ما أنتَ رفضتَه! واستنتجتُ ليلتها أنهم كانوا يعرفون في تلك اللحظات، أنَّ الثورةَ قد بدأتْ تتحرك طلائعها الأولي! يقول الباقوري: وكنتُ أعلم يومئذٍ- أثناء ثورة 1952م- أنَّ هناك تشكيلات من الإخوان المسلمين في الجيش، وهناك تشكيلٌ آخر منهم في البوليس، وأنَّ مصر من أقصاها إلي أقصاها مُجَنَّدةٌ لفكرة الإخوان المسلمين! ومادام هكذا، فلابدَّ أن يشترك الإخوان المسلمون في الحكم! رؤيا حسن البنّا! قبل مقتل البنا، أرسل يستدعيني، فذهبتُ إليه في داره، في حارة سنجر بالحلمية الجديدة، وإذا بالرجل- رحمه الله- يقول لي: أُحِبُّ أن أخبرك خبراً، وأنتَ عليه مأمونٌ! قلتُ للإمام: أنا تحت أمرك. قال: أنا سأختفي! قلت: ماذا تعني؟! قال: أنا أشعر، أنني سوف أختفي، وأنني سوف أجد نفسي بعيداً عن مقامي هذا! قلت له: لا أكاد أفهم شيئاً!قال: 'أنا رجلٌ أري المنام، وقد منَّ الله عليَّ، بأنْ يحدث ما أراه.. لقد رأيتُ رسولَ الله صلي الله عليه وسلم يركب ناقةً، ومعه أبو بكرٍ علي الناقة، وأنا أقودها من زمامها.. وإذا بالزمام ينقطع من يدي فجأةً، ويأخذه من لا أعلم! فأوَّلتُ ذلك أنني لن أتابع الوصولَ إلي الغاية التي أريدها بالدعوة! ولكنني أخذتُ علي نفسي عهداً، بأن نظل في هذه الدعوة، نتوارثها واحداً عن واحدٍ، حتي نلقي الله، بحيث لا تنحلُّ الدعوة! فإذا أنا اختفيتُ، فأنتَ مكاني، ارعَ الإخوان، واصنعْ ما يرغبون، مما يقيم حياتهم، ولكن علي أن يبقي لك هذه الوضع، إلي أن يخرج الإخوان من معتقل الطور، فإذا خرجوا، فهم أحرارٌ عند ذلك، أن يختاروا لهم مرشداً عاماً! وهذا ما أُصَرِّح لكَ به، وآمرك أن تُنفِّذه'! والسؤال المهم هنا: لماذا خالف الإخوان المسلمون وصيةَ إمامهم/ حسن البنا، في ضرورة تعيين الشيخ/ الباقوري من بعده مرشداً عاماً لهم؟! ولماذا فضَّلوا عليه المستشار/ حسن الهضيبي، وهو ليس من الإخوان أصلاً؟! فصل الباقوري من الجماعة! والغريب في الأمر بعد ذلك، أنَّ الباقوري تمَّ فصله من الجماعة، بعدما قَبِلَ وزارة الأوقاف عام 1952م، في عهد الثورة، ظنّاً منه أنَّ صنيعه هذا سيفيد الجماعة قوةً ونفوذاً! يقول الباقوري: 'صعدتُ إلي حسن الهضيبي، ودققتُ البابَ، وفتحوا لي. وإذا بالإخوان قد عرفوا بتعييني وزيراً، وكانوا قد أرسلوا وفداً للاشتراك في الوزارة، ولم أكن من هذا الوفد! وكاد الإخوان يضربونني، عندما أخبرتهم بذلك! وقال الهضيبي: اكتب لنا ورقة، تستقيل فيها من الإخوان المسلمين، حتي لا تحمل أوزارنا، ولا نحمل أوزارك! قلت: ماذا أكتب؟ قال: اكتب الذي تكتبه! فكتبتُ هكذا: السيد المستشار/ حسن الهضيبي، المرشد العام للإخوان المسلمين. سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنني أرجو أن تقبل استقالتي من مكتب الإرشاد.فقاطعني قائلاً: لا، ليس هذا فحسب! قلتُ: وماذا تريد إذن؟ قال: أضف إلي الاستقالة هذه الجملة: من جميع تشكيلات الإخوان المسلمين، في الشُّعَب، والأقاليم. قلت: حاضر، وأضفتُ هذه الجملة: ومن جميع مؤسسات الإخوان المسلمين، في مختلف الشُّعَب، وسائر المؤسسات، التي فيها مراكز للإخوان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته! في كتابه 'أعلام الصعيد في القرن العشرين' يعلِّق محمد عبد الشافي القوصي- علي حكاية فصل الباقوري واستبعاده من الجماعة، فيقول: إنه لوْ قُدِّر للشيخ/ الباقوري أن يكون مُرشِداً 'لجماعة الإخوان' لَمَا وصلتْ 'الجماعة' إلي هذا الانغلاق الفكري الذي ران علي قياداتها، وما صارت ثقافتها حركية، أكثر منها دعوية! وما عاشت في الظلام الدامس! وما تعرضتْ لضربات البوليس، وطعنات الأمن! ومن هنا نفهم، لماذا هجرها العلماء الأكابر، والدعاة الأفذاذ، أمثال: الغزالي، والشعراوي، والسيد سابق، وحسن الشافعي، وغيرهم ممن لا يريدون عُلُوًّاً في الأرض ولا فساداً! محاولة اغتيال عبد الناصر! كان الشيخ الباقوري حاضراً يوم الاعتداء علي عبد الناصر، في المنشية بالإسكندرية عام 1954م، وكان في المكان نفسه، يقول الشيخ الباقوري: 'كنتُ أجلس في الشرفة، بجوار الأخ الفاضل/ ميرغني- وزير الزراعة السوداني، وإذا يداه مُخضَّبتان بالدم، وإذا بالرئيس جمال عبد الناصر منفعلاً انفعالاً شديداً، والذي يُصغي إلي انفعالاته، لا يمكن أن يقول إنَّ هذه تمثيلية أبداً! لا يمكن- إطلاقاً- أن يُسَلِّم أي إنسانٍ أنها تمثيلية! لقد أساء بعضُهم الفهمَ، وانزلقوا خلف المُغرضين! إنَّ محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية كادت تعصف بالثورة، وإنَّ إطلاق الرصاص علي عبد الناصر في المنشية لم يكن خيراً أبداً! لقد كان عملاً مُدبَّراً بالفعل'! إذن، لقد فصلت الجماعة الباقوري، لأنه لم يكن من الصنف الذي يسمع ويطيع، ويكتفي بالسير مع القطيع! كما أنه تركها، حينما أدرك أنها جماعة لا علاقة لها بالدين، ولا بمصالح المصريين، وقضاياهم الوطنية، فكان الطلاق البائن بينونةً كبري بين الطرفين إلي الأبد.