إنعقدت المحكمة العسكرية بكامل هيئتها. جلس الجنرالات في صدارة المشهد وعلي مقربة منهم ممثلو الادعاء. إمتلأت القاعة بالضباط والجنود وأشار رئيس فرع الاستخبارات العسكرية علي القائد العام بالسماح لبعض خبرائه من المدنيين حضور هذه المحاكمة. دقائق واكتظ المكان بالمتهمين من العسكريين وعلي اختلاف رتبهم ، كان بادياً عليهم علامات الخوف والترقب. أشار الحاكم العسكري بيده فنادوا علي المتهمين من الأول وحتي الخامس عشر، وبعد أن تلوا عليهم عريضة الاتهام مشفوعة بالقيد والوصف لما ارتكبوه من خروج علي مقتضي الواجب العسكري في أثناء الحرب. سأل رئيس المحكمة المتهم الأول: ما قولك فيما هو منسوب إليك بأنك لكمت قائدك المباشر لكمات متتالية كادت أن تذهب بإحدي عينيه. تململ الرقيب المتهم في وقفته وتمتم قائلاً: سيدي الجنرال أنا لا أعرف كيف فعلت هذا، كنت أقف أمام الطابور بينما القائد يستعرض الجند وهو في طريقة دهس قدمي بحذائه الثقيل فطار صوابي وفقدت عقلي ذلك أنني لم أخلع حذائي قرابة عشرين يوما كانت فيها أصابعي قد تورمت وأصابتها القروح ولم أشعر بنفسي إلا بعد أن قيدوني وأوسعوني ضرباً وعنفاً لأني تجاوزت كل الحدود مع سيادة القائد. وجه الجنرال سؤاله إلي العريف المتهم الثاني: ما قولك فيما هو منسوب أليك في أنك ضربت قائدك الميداني ضرباً مبرحاً حتي كدت أن تكسر فكه. وأجابه مباشرة: سيدي الجنرال ما إن رأيت السيد الرقيب يكيل اللكمات للقائد حتي ظننت أن الحرب قد انتهت!. وتعددت الأقوال والإجابات من المتهم الثالث وحتي الخامس عشر كلها تدور حول أسباب شخصية متعلقة بأفكار الجند وثقافتهم وإدراكهم وحجم معاناة كل منهم وقدرته علي التحمل والصبر. فبرغم انتصارهم في معركة ستالينجراد وبرغم أن القائد كان يستعرض جنده ليشد من أزرهم ويهنئهم ويفخر بشجاعتهم وقدرتهم علي تحمل صعوبات الجو وأنواء الطبيعة وعناد العدو الألماني وقوة تسليحه بما جعلهم لا يزالون علي قيد الحياة مخلفين وراءهم عدواً مهزوماً، ورغما فقد حاولوا الفتك بالقائد دون أن تكون له جريرة مباشرة في معاناتهم وعذابات أيامهم الطويلة. فمنهم من رأي في القائد ذلك العزول الذي حال بينه وزوجته وأولاده فاعتدي عليه، ومنهم من كانت تعذبه رائحته الكريهة واتساخ ملابسه" ففش غله" في القائد، ومنهم من اشتاق لمحبوبته وأقرانه يسهر معهم عطلة السبت في أحد المشارب أو المراقص فضرب القائد، ومنهم من رأي الآخرين يضربونه فأوسعه بدوره صفعاً وركلاً دونما سبب ظاهر. إنه الوعي الزائف والضمير الجمعي الحائر وهو العقل البديل الذي ظهر فجأة من أعماق الجند موجهاً نحو القائد دونما خطأ ارتكبه في حقهم أو ذنب. تلك كانت فحوي التقارير التي كتبها المدنيون الذين حضروا المحاكمة والذين جاءوا من تخصصات مختلفة في علوم النفس والاجتماع والاتصال. وهنا كانت الدراسات الميدانية لنفسية الجنود واحتياجاتهم الإنسانية وكذا تأثير الجبهة الداخلية علي العسكر ومعنوياتهم وبدأت دراسات علوم الاجتماع السياسي الحديث ومؤشرات الرأي العام وفروع المؤسسات العسكرية في التعبئة العامة والتوجيه المعنوي وغيرها كثير من مستجدات ما بعد الحرب العالمية الثانية في صناعة المعرفة وتوجيه العقول والتضليل الاعلامي والوعي المعلب والوعي البديل. ومن هنا تعلم محركو الدمي الكبار في السياسة والإعلان ووسائل الاتصال في العالم كيف يجذبون خيوط الرأي العام وكيف يتلاعبون بالعقول والضمائر والمفاهيم. وتعلموا أيضا كيف يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير دوره بنجاح بما يكفيهم الحاجة إلي إتخاذ تدابير سياسية بديلة. وكان هنا مكمن الخطر. علي أن التضليل الاعلامي للجماهير كان واحداً من الفنون القديمة قدم المجتمعات الإنسانية ومنذ نشأت التجمعات البشرية وقبائلها في مجتمعات الرعي والبداوة ومن ثم دول مابعد الثورة الزراعية وما تلاها من عصور البخار والصناعة والكهرباء والذرة في دولة ما بعد الحداثة. وارجع إلي أشعار فرجيل وهوميروس والإلياذة والأوديسة وجلجامش وإلي أعمال سوفوكليس وحرب طروادة وغيرها من الأعمال والأدبيات القديمة لتري كيف استخدمت الأساطير في حشد الرأي العام وتعبئته وتوجيهه وأحيانا تضليله. وكما يقول خبير التربية "باولو فيريري" إن تضليل عقول البشر والتلاعب بها ما هو إلا أداة للقهر وهو واحد من أهم الأدوات التي تسعي من خلالها النخبة إلي تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة ومن ثم السيطرة عليها. والقهر هنا مفهوم إجتماعي ومعنوي أكثر منه مفهوم مادي بمعني العنف والتسلط. في كتابه »المتلاعبون بالعقول« يقول»هربت شيللر« أستاذ علوم الاتصال بجامعة كاليفورنيا بسان دييجو: إن وسائل التضليل عديدة ومتنوعة وأهمها السيطرة علي المعلومة والصورة في محطات الإذاعة وشبكات التليفزيون والصحف والمجلات وصناعة السينما ودور النشر، وكلها تقوم بدورها الفعال والنشط في تضليل الرأي العام. وذلك نفسه ما حدث مع المتهم الثاني في محاكمة "ستالينجراد" فقد رأي صورة موحية ومؤثرة وهي مضللة أيضا لزميله الذي يضرب القائد لسبب يخصه هو وألم يوجع قدمه المعطوب لكنه وبتأثير الوهم وعدم دقة الإدراك قام هو أيضا بضرب القائد. ومثله يحدث معنا جميعا. وطالع الصحف والدوريات وبعض الفضائيات لتري كيف نقوم جميعا بتضليل الرأي العام وبدلاً من تنويره كيف نقوم بهدمه وقهره وتحقيق أجندة أعدائنا في تزييف الوعي ونظريات الفوضي الجهنمية التي يستهدفوننا بها ليل نهار. انظروا إلي راديو سوا وقنوات "الحرة" والجزيرة وغيرها من الفضائيات التي تستهدفنا بالصورة وخلق الوعي البديل، الوعي ال Take away الوعي المعلب في السوليفان والأمبولاج الرقيق الجميل ذات المحتوي المضلل الخطير، عن السلام والتعايش وتقبل الآخر وحق إسرائيل في الدفاع عن النفس. يا سادة يامن تتلاعبون بالعقول والضمائر والمفاهيم ودونما دراية تقومون بصناعة العقل البديل والوعي المعلب في صورة وفي خبر. اتقوا الله في هذا الوطن ولا تدفعوا الرأي العام للسقوط واليأس والقهر والمفارقة. استعيدوا دوركم المغيب ربما عن غير قصد. أنيروا للرأي العام طريقه واحشدوه نحو مشروع قومي عربي للتحديث والنهضة ولا تشغلوه بما لاناقة له فيه ولا جمل، فليست قضيتنا الوحيدة هي تداول السلطة ولا بماذا صرح نظيف أو قال محمد البرادعي. لا تحاكوا من دهست قدمه المتورمة ولا من حسب أن الحرب قد انتهت، وتساءلوا أين مشروعنا للمستقبل؟ وكيف نصنعه؟. وكيف ندفع عنا هذا التجبر الإسرائيلي والانحياز الأمريكي والتواطؤ الأوروبي. واقرأوا معي أمل دنقل في ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" حيث يقول: ياصاح حين يأتي الصبح في المذياع بالبشائر/ أزيح عن نافذتي الستائر/ فلا أراك / أسقط في عاري بلا حراك/ أسأل إن كانت هنا الرصاصة الأولي؟/ أم أنها هناك؟؟ . هكذا استشرف أمل ما نحن فيه وتكلم به. ومن أسف فالرصاصة الأولي كانت هنا وجهناها إلي صدورنا في لحظة ساقطة في تاريخنا العربي وكأنها غيمة كبيرة تعامينا فيها عن حقيقة الصراع فلم نعرف علي من نطلق الرصاص وتشاغلنا بحرب البسوس وداحس والغبراء، بينما الذئب يرعي آمناً بين ظهرانينا وينعم بغفلتنا وتغابينا، لايجد من يوقفه عند حده، فتمدد وتنامي وتجبر وتطاول وعربد وتجاوز كل الحدود ووصلت قرصنته قتل وإصابة العشرات من المدنيين ودعاة السلام في الإعتداء علي »قافلة الحرية« في المياه الدولية غير عابئ بقانون دولي أو نظام عالمي، بينما نحن نعيش الوعي الزائف والضمير الجمعي الحائر والعقل البديل الذي ظهر يبشر بالسلام وخارطة الطريق والمفاوضات، وفاتنا أن حسن النوايا لاتجدي مع من لاخلاق ولارادع لهم.