في لغة المرور والطرق والقيادة هناك التعبير الإنجليزي "يو- تيرن" الذي يعني الدوران للخلف، وهناك التعبير الفرنسي "مارش آريير" او كما درجنا علي نطقه "المارشدير" والذي يعني القيادة للخلف. ومع ان كلا التعبيرين يؤديان دلالة النكوص والتراجع ، إلا ان الفارق الجوهري بينهما يكمن في الإشارة إلي اتجاه القائد. فالأول يؤدي دلالة تغيير الاتجاه، والعودة ربما لنقطة البداية او الاقتراب منها أو حتي التمادي بتجاوزها، بينما يؤدي الثاني مفهوم السير عكس الاتجاه الذي لن يطول بك - علي نحو عملي - كثيراً. في الآونة الأخيرة تردد كثيرا في المدونات ومنشورات التواصل الاجتماعي تعبير »انتبه الثورة ترجع الي الخلف«. وهو تعبير يوحي بالاحباط وايضا التحذير. بقليل من التأمل في أحداث الأسابيع الفائتة وجدت ان تعبير "يو- تيرن" هو الأقرب لوصف الحالة المصرية الراهنة. دعونا نغص داخل نفوسنا قليلاً ونسأل بعضنا البعض: أين هي الحالة الثورية التي غلفتنا وطهرتنا في بواكير ايام الثورة؟ أين اليوتوپيا التي عشنا فيها في تلك الفترة؟ لماذا عادت الفوضي واللامبالاة والعصبية والقذارة والتشويه والانتهازية. أيهما الأصيل في الوجدان المصري النظام أم الفوضي؟ الالتزام أم الخوف؟ الصواب أم الخطأ؟ ولماذا عادت ريما لعاداتها القديمة؟ هل يكمن السر في غياب القانون والأمن ؟ هل نحن شعب اعتاد علي العيش تحت وطأة القبضة الحديدية للسلطة كما يزعم البعض ولايمكنه الالتزام بالأصول والقواعد الأخلاقية دون سوط السلطة؟ كوميديا سوداء كان الغروب علي وشك الحلول وماتزال هناك بقية من ضوء نهار يحتضر. في ذلك اليوم وأنا في طريق عودتي من الجريدة رأيت مشهدا من أغرب ما وقعت عيناي عليه. شخص يتدلي بجسده من أعلي كوبري 15 مايو ويحاول توصيل حبل ما لزميله الواقف اسفل الكوبري يعرض كمية من الملابس المستعملة. في نفس التوقيت لكن في يوم تالٍ تكرر المشهد وفهمت ما غمض عليّ من قبل.اكتشفت ان الشخص المتدلي يحاول توصيل تيار كهربائي مسروق من أعمدة الإنارة العمومية الموجودة أعلي الكوبري (آي والله) وفهمت انه يريد تحويل هذا الخندق المظلم اسفل الكوبري الي سوق مفتوح مضاء كالأفراح. ساعتها استحضرت المشهد العبقري من مسرحية سيدتي الجميلة حين وقف الراحل فؤاد المهندس يراقب أجزاء سيارته المسروقة امام عينيه وهو فاغر فاه غير مصدق لما يراه.
هي حالة فاحشة من"الطجرمة" التي سادت حياتنا كنت أشرت اليها من قبل في اليوميات وخاصة منطقة بولاق أبو العلا او " جمهورية بولاق" كما أطلق عليها البعض والتي أدي التسيب الأمني فيها الي المعركة المسلحة التي وقعت قبل اسبوعين بين اصحاب المحلات والباعة الجائلين الذين زحفوا واحتلوا نهر الطريق والأرصفة. هذا نموذج بسيط من "اليو- تيرن" الذي أقصده. ففي أوائل أيام الثورة أخذت الحماسة أولاد البلد في بولاق وقاموا بتنظيف وتجميل الشارع الرئيسي ووضعوا لافتات تسجل لهم هذا الإنجاز الذي تم بالجهود الذاتية. الآن اختفت الحالة الثورية المتفائلة وحلت بدلاً منها حالة من تحدي سلطة الدولة او استغلال غيابها والتعدي علي الأملاك العامة. المضروب.. مرشح رئاسة لم ينفتح بعد باب الترشح لرئاسة البلاد. مع ذلك انهالت اسماء المرشحين المحتملين كالمطر.. أضحينا وسط سوق من المرشحين البارزين والمغمورين. فيهم الثوريون ومنهم الفلول بالفم الملآن، وأُُخَر فلول علي استحياء. منهم من يعوم علي سطح الموجة، ومنهم من يغطس تحتها حتي تمر. ومايزال في انتظارنا العديد من المفاجآت بعدما ينفتح باب الترشح رسمياً.في ظل هذا التكدس، والتشتيت الذي سيصيب المواطن المصري يقيناً وسط هذا العدد اللا متناهي، ظهرت فكرة الرئيس التوافقي التي لا تعدو في ظني إلا أن تكون دعابة سخيفة لا تمت للفكر السياسي الرصين او الديموقراطي بصلة. لكن الدعابة تطورت الي "قرصة ودن" لكل من تسول له نفسه عدم الانصياع والسير في مواكب إضحاك الملك وجوقة القهقهة والثناء علي دعاباته السخيفة. وتكررت حالات التعدي علي مرشحين بارزين للرئاسة وإثر انسحاب الدكتور محمد البرادعي من سباق الرئاسة بعدما تعرض لأكثر من اعتداء همجي، نالت الدعابات الثقيلة كلاً من الدكتور عبد المنعم ابو الفتوح والسيد عمرو موسي.كما تعرض الدكتور حسن البرنس وكيل لجنة الصحة بمجلس الشعب لاعتداء مماثل. بصرف النظر عن اختلافنا او اتفاقنا مع احد المرشحين، فإن ما يلفت الانتباه هو محاولات التفسير التفتيتي لهذه الحوادث والتعامل مع كل منها علي حدة، فتلك دوافعها جنائية وأخري دوافعها سياسية حتي لا يبدو الأمر كأنه ظاهرة، فلا تتجمع خيوط الجريمة. كنت قد قرأت احد التفسيرات الأمنية التي تقول بأن هذه الحوادث متفرقة لايجمع بينها اي قاسم مشترك سوي ان ضحاياها كلهم من مرشحي الرئاسة. إلا أن الخبير الأمني صاحب التحليل تجاهل ضم حادث د.البرنس الي سلسلة تلك الاعتداءات المخزية.كما ان ثمة قاسماً مشتركاً آخر تناساه صاحب التحليل هو ان هؤلاء المرشحين جميعا رفضوا او تحفظوا علي فكرة الرئيس التوافقي، وتمسكوا بسلطة صناديق الاقتراع. وأن الدكتور البرنس هو أحد اعضاء اللجنة الطبية التي أوصت بنقل الرئيس المخلوع الي مستشفي السجن بدلاً من المنتجع الطبي العالمي الذي يرقد فيه. هنا تعاودني فكرة "اليو- تيرن" من عدة زوايا. او التراجع عن مبادئ الثورة ومكتسباتها. وكأن أصحاب فكرة التوافقي يريدوننا ان نظل حبيسي التوافق والاستفتاء. لم يدرك هؤلاء بعد اننا لأول مرة في تاريخنا علي الإطلاق سنختار رئيساً وسنفاضل بين عدة مرشحين.
بعيداً عن "الرئيس التوافقي" تقلقني جداً ظاهرة الاعتداءات المختلفة علي المرشحين وتوجيه التهديدات لهم ولأسرهم.. فهل عدنا لمعاقبة الخصوم السياسيين؟ أم أننا نمضي نحو مرحلة الاغتيالات السياسية التي حذرنا منها المدعو بالعقيد عمر عفيفي من منفاه قبل عدة شهور، وأكد انها ستمس عدداً من مرشحي الرئاسة؟ ولا يفوتني بهذه المناسبة ان أطرح بعض التساؤلات التي تدور في اذهان الكثيرين: تري ما هي المؤامرة ضد الانتخابات الرئاسية التي كان السيد عمرو موسي بصدد الكشف عنها؟ وهل يمكن النظر لمحاولات إقناع السيد نبيل العربي والسيد منصور حسن بخوض الانتخابات الرئاسية علي انه نوع من "العكننة" علي موسي بمزاحمته علي يد العربي صديقه الصدوق أو منصور حسن الذي شجعه من قبل علي خوض الانتخابات ووعده بإعطائه صوته؟ ثم من ذا صاحب المصلحة الذي يحاول إحداث الوقيعة بين أحد المرشحين وشباب الثورة؟ الأسهم كلها تشير الي الفلول،لكن الفلول مقامات.. فمن أي مقام تلك العقلية التي دبرت كل هذه الحوادث؟ وهل يمكن تعقب أي صلة بين هذه الواقعة وبين تعليقات موسي الحاسمة التي أعلنها في إحدي الفضائيات حول انتهاء دور المجلس العسكري بعد انتخابات الرئاسة والمرحلة الانتقالية؟ من قلبي أتمني السلامة لكل المرشحين حتي هؤلاء الذين لا أطيق مرآهم أو سماعهم فالأمر لا يتعلق بشخوصهم، لكنه يرتبط - بشكل أصيل- بمسيرتنا السياسية بعد الثورة وآداب الخلاف، وأصول الخصومات السياسية. المال والفضائيات الخاصة في اليوميات السابقة تناولت المؤامرة علي الصحف القومية والتهيئة لخصخصتها وتحميل المؤسسات الكبري خسائر المؤسسات الزميلة.الغريب ان الهجمة القديمة والمتواصلة علي المؤسسات الصحفية القومية، تقابلها هجمة موازية علي الإعلاميين المرموقين في الفضائيات الخاصة في نموذج صارخ لليو- تيرن. محاولات تطفيش بالجملة،مثلما حدث مع حمدي قنديل ومحمود سعد وابراهيم عيسي ودينا عبد الرحمن ومعتز مطر.. تنقلات غريبة، خلافات مفتعلة، إغلاق الهواء علي المذيع، منع المذيعة من دخول الاستوديو. هي ظاهرة غير صحية بلا شك لكن مردها هو تحكم رأس المال في المنتج الإعلامي والتدخل في كل مفردات وتفاصيل العمل التليفزيوني.وتتفاقم الأزمة حين لا يكون صاحب رأس المال مرتبطاً بصناعة " الميديا". هذه الظاهرة تضفي بعداً جديداً علي مخاطر الخصخصة التي سبقت الإشارة اليها في اليوميات الماضية. أما فيما يتصل بالعمل المرئي فثمة أكثر من ملاحظة من المهم إلقاء الضوء عليها. اولاها: تكالب رجال الأعمال علي امتلاك وسيلة إعلامية او أكثر كمحطة او مجموعة فضائيات او صحيفة، وعلي اقل تقدير يكون هناك امتلاك لنسبة حاكمة من الاسهم في احدي هذه الوسائل. لاحظ معي ما تردد مؤخراً وما هو معروف ومعلن سلفاً: قنوات دريم يملكها رجل الأعمال احمد بهجت، المحور يملكها حسن راتب، الحياة يملكها الدكتور السيد البدوي رئيس حزب الوفد وهو في الاصل رجل أعمال، وأون تي ڤي يملكها نجيب ساويرس، وأهل البلد يملكها محمد أبوالعينين، وسي بي سي والنهار وقنوات مودرن يملكهم محمد الأمين أما قناة التحرير فقد اشتراها مؤخرا رجال الاعمال سليمان عامر. أما ثانية الملاحظات فهي ان سابقة أعمال رجال الاعمال ملاك القنوات الفضائية ونشاطاتهم وخبراتهم لاتمت للعمل الصحفي والإعلامي بصلة، لكنهم في سبيل امتلاك أبواق للدعاية يستطيعون استخدامها والتأثير بها وتوظيفها سياسياً عند اللزوم وحبذا لو تمت الاستعانة بالمتخصصين في هذا المجال من الأسماء الإعلامية والصحفية اللامعة التي تتمتع بشعبية وقبول جماهيريين، ولا مانع من السخاء والبذخ في أجورهم فالعائد الأدبي والمعنوي من وراء الاستعانة بالأسماء الشهيرة يستحق التضحية، لكن عند اول منعطف يثبت قوة شخصية المذيع واستقلاليته أو لدي خروجه عن النص فان فضائح الأجور المبالغ فيها تخرج من الثلاجات وتبدأ الحرب الشعواء لبث الحقد علي هؤلاء وتأليب جماهيرهم عليهم. وعلي الرغم من التكاليف الباهظة لإطلاق قناة فضائية واحدة ناجحة أو صحيفة سيارة، إلا ان المشروعات الإعلامية تتمتع بجدوي اقتصادية معتبرة ، كما أن النفوذ الذي يحققه امتلاك وسيلة إعلامية واحدة يفوق بكثير عائدها المادي. وثالثة الملاحظات فهي ذلك السيل من المحطات الفضائية الخاصة الذي انهال علي مصر بعد الثورة، دونما مصدر معروف للتمويل، خاصة بعدما تردد مؤخراً عن ضخ الملايين من دول خليجية وأوروبية في سبيل امتلاك او إطلاق قنوات فضائية خاصة. قد يتساءل أحد الأبرياء عن الدافع من وراء تدفق اموال الخليج لامتلاك محطات مصرية او وراء سعي رجال الأعمال لتطعيم نفوذهم الاقتصادي بنفوذ آخر إعلامي.
فتش عن الفلول وأجيبك باطمئنان .. فتش عن الفلول. فمن المعروف ان دولاً خليجية أعلنت غضبها الشديد للمصير الذي يواجهه الرئيس المخلوع، وحاولت بشتي الطرق إنقاذه من هذا المصير، وحين فشلت الطرق الدبلوماسية العادية والمفاوضات وسياسات العقاب الاقتصادي لمصر، بسبب الزخم الثوري الذي يسود الشارع السياسي كان لابد من اللعب في أدمغة المصريين ودس السم في العسل وبث الرسائل المراد توصيلها عبر ابواق إعلامية مضمونة الولاء. أما رجال الأعمال وملاك الفضائيات من خارج الوسط الإعلامي فإنهم يدركون جيداً الأثر القوي للفضائيات في تدعيم مكانتهم، ويعي ذوو المصلحة منهم أو أصحاب الملفات المشبوهة فضل الفضائيات التي يستمدون من خلالها بقاءهم علي مسافة قريبة من النظام او النخبة، وهذه المساحة تضيق وتتسع حسب المصلحة المشتركة، والخطر الذي يمكن ان يداهمهم لو فاحت رائحة فسادهم دون القدرة علي السيطرة عليها. وكلما غمزت السلطة بعين التحذير لهذا او ذاك ضيق الخناق علي مذيعيه المتمردين او اصحاب الرأي منهم حتي لايفقد رضا النظام أو النخبة السياسية التي يجد لنفسه موضع قدم بينها. هل يمكن بعد هذا تصور إعلام مستقل وحُر ونزيه؟ موضوع سيطرة رجال الأعمال ودوائر السياسة والمصالح علي وسائل الإعلام ظاهرة عالمية معروفة في الغرب الديموقراطي، وهناك أباطرة للإعلام معروفون بعلاقاتهم الوثيقة بأنظمة الحكم في بلادهم لعدم وجود إعلام وصحافة قومية كما هو الحال عندنا. وفي الواقع نحن لسنا بعيدين عن هذه الظاهرة العالمية وإن كنا حديثي العهد بها نلامسها بتحفظ لأننا نخشي لسعتها. وفي ظل حالة الانفلات والعشوائية الإعلامية الموجودة يمكنك ان تتيقن من ان الأبواب مفتوحة علي مصراعيها امام الفلول ليعودوا وبقوة ويستعيدوا نفوذهم الذي انكمش في السنة الأخيرة.