ظللنا لفترة طويلة نبحث عن »صورة مصر« الحقيقية، والآن نراها لأول مرة في داخلنا دون وصاية أو مجال للمزايدة عبر عدسات مهزوزة وغير حيادية.. مصر كما نراها الآن نتاج حقيقي لمحاولة تفاعل مع مناخ الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي أوجدته ثورة 52 يناير الذي يجب ان يمتد الي الاعلام. الشعب يريد اعلاما وطنيا، يريد تطهير واستعادة أجهزة الإعلام التي اغتصبها النظام الفاسد، باختصار ان تكون الاذاعة والتليفزيون ملكا لجميع المواطنين والمعارضة والحكومة أي حكومة، بعد ان كانت حكرا علي الحزب الوطني وحكوماته الفاسدة، نريد سياسات إعلامية عامة تتيح الفرصة للاجتهاد الوطني الفردي لكل قيادة إعلامية للابداع والتطوير بدلا من تلقي التوجيهات من أعلي لاسفل! نريد ان يستعيد الإعلام المصري جمهوره الذي كاد ان يخسره أو خسره لصالح الفضائيات القادمة من داخل مصر وخارجها، نريد تطويرا يعترف بطبيعة عصر السماوات المفتوحة التي لا يمكن فيها حجب أي معلومة وأي تقييم في ظل هذا الوضع الذي جعل إعلامنا يخسر أرضه ويترك المواطن المصري نهبا للمبالغات والفرقعات الإعلامية التي يجري بعضها وراء الاثارة ويتعمد البعض الآخر تشويه الصورة واصابة المواطن المصري باليأس من الإصلاح. نريد إعلاما يقول كل شيء بوضوح.. ونريد اعادة الاهتمام بالثقافة كأحد الأدوار المهمة للاذاعة والتليفزيون، وما يقال عن الثقافة يجب ان يقال علي البرامج الأخري التي تهتم بالحياة السياسية والاقتصادية لتناقش مختلف القضايا بجدية وشفافية تامة. نريد ان يفسح الإعلام مجالا للمعارضة والخبراء والشباب يوجهون الانتقادات للحكومة- أي حكومة- يعبرون عن آرائهم لتحسين الأداء، لكي يتعرف الشعب من خلال هذه المناقشات علي العقبات قبل ان يتعرف علي حجم الانجازات والاداء في قطاعات العمل المختلفة إلي جانب مشاكل الحياة والصحة والتعليم والعشوائيات وما ينتج عنها من مآس ومشكلات معقدة نراها علي شاشة التليفزيون، وفي نفس الوقت يقدم لنا التليفزيون الأمل والثقة في مستقبل أفضل دون تزييف باذاعة تقارير من أرض الواقع لما تحقق بالفعل من انجازات في كافة مجالات التعليم والصحة والسياحة والاتصالات والكهرباء والطاقة إلي جانب التحديات المفروضة والتي يجب ان نواجهها دون تزويق أو رتوش! لقد اتسع سوق الفضائيات ليصل الآن إلي ما يقرب من 005 فضائية يمكن لمن يتابعها ان يصاب بالجنون، فالقنوات التي تبث العري تتجاور مع القنوات التي تبث الفكر المتطرف وبعضها يخضع لمالك واحد يبيع النوعين، بل ان هناك بعض القنوات يتتابع في الواحدة منها بث كل هذه العشوائية، فبرنامج عري مستفز يتبعه برنامج رياضي أو سياسي وليس في اصول الإعلام شيء كهذا، بل يجب ان يكون لكل قناة هدف وتوجه معروف، وهناك مصالح للمجتمع واخلاقيات يجب ان تراعي وليس هناك مكان في العالم يسمح بهذه الفوضي المربكة. لقد تزايدت في الفترة الأخيرة ظاهرة تأسيس القنوات الفضائية لتلحق بظاهرة الصحافة الخاصة بعد ان اكتشف رجال الأعمال أهمية الإعلام في خوض حروبهم الهجومية علي اعدائهم والحروب الدفاعية عن أنفسهم كل رجل أعمال أصبح الآن يسعي إلي إطلاق جريدة أو قناة فضائية والبعض يجمع بين الحسنيين. والخطير في هذه القنوات والصحف انها تلون اخبارها وتعليقاتها طبقا لمصالح أصحابها وارتباطاتهم في السوق. العالمون ببواطن الأمور في مجتمع رجال الأعمال ومجتمع الإعلام يستطيعون قراءة اتجاهات الريح ومعرفة الأحلاف والصداقات من خلال ما ينشر وما يذاع، ولكن المشكلة في الجمهور العام الذي لا يعرف الكواليس ويتخذ قراراته واتجاهاته بناء علي مواد إعلامية ملغومة. الظاهرة خطيرة ومساوئها تتضاعف كل يوم واخطر آثارها السلبية تظهر واضحة في لغة الحوار المستخدمة بين أبناء المهنة الواحدة، وليس هناك من حل لهذه الظاهرة الا بالتدقيق في أوراق تأسيس الشركات الصحفية والفضائية التي ينص القانون علي عدم تجاوز حصة الاسرة الواحدة فيها العشرة في المائة ولكن الواقع يقول ان أي رجل أعمال يستطيع التحايل علي هذا البند علي الورق لان الحقيقة تقول ان كل صحيفة أو قناة فضائية منها يمولها مالك واحد أو مستثمر رئيسي واحد يتحكم فيها وفي توجهاتها. مازلنا نتطلع إلي المزيد من الحيوية والقدرة علي المبادرة والتحرك السريع لملاحقة الأحداث من خلال الاعلام المصري وتحقيق هذا الهدف يتطلب التفكير والدراسة لتحديد المطلوب من الاعلام المسموع والمرئي، وايجاد تشريعات تنظم الإعلام وتعاقب القنوات التي تخالف الاعراف وميثاق الشرف الإعلامي وإلغاء تراخيصها لإصرار البعض علي ممارسة الفساد المهني. تطوير منظومة الإعلام وتطهيره من الفساد ليكون اعلاما للشعب وليس اعلاما للنظام ليتماشي مع الوضع العام في مصر بعد ثورة 52 يناير، حتي تصبح مهمته دعم قيم المجتمع وترسيخ هويته ونشر العلم والثقافة ودعم الإصلاح داخل المجتمع والمشاركة الديمقراطية وحقوق الإنسان. مطلوب تأسيس منظومة جديدة للاعلام المصري تضم هيئة التليفزيون والإذاعة ومجلسا وطنيا للإعلام ومكتبا للإعلام الخارجي، وإلغاء هيئة الاستعلامات، وتكوين مجلس امناء حقيقي مستقل عن الحكومة لهيئة الإذاعة والتليفزيون يرسم سياسات للقنوات التليفزيونية ويراقب تنفيذها ويحدد خطط التوسع أو الانكماش علي ضوء احتياجات الواقع ويتم اختيار مجلس الأمناء لمدة محددة، وترشيد الانفاق عن طريق أدوات الرقابة المالية والإدارية المختلفة والتحقق من إدارة العمل بالكفاءة والفاعلية المناسبة إلي جانب تحديث الخطط البرامجية وخرائط القنوات، الارضية بأنواعها والفضائية، بحيث تأخذ في اعتبارها حاجات وقيم سلوكيات المواطن المصري المختلفة وتعميق طابع الخصوصية للقنوات المحلية وتطويرها بحيث تكون قادرة علي الوصول برسالتها إلي خارج الإطار المحلي لها، علي ان تشمل هذه المنظومة ضرورة التأكيد علي احترام الاديان السماوية والقيم الاخلاقية وترشيد عملية الرقابة علي مختلف المواد الاعلامية والدرامية خاصة من الناحية المالية، مع التركيز علي ثقافة الحوار. ان فشل الإعلام المرئي والمسموع في الحصول علي رضاء المواطن المصري، واقتناع المشاهدين والمستمعين بعدم مصداقية الرسالة الإعلامية التي يقولها هذا الإعلام وما نتج عنه من ابتعاد الاكثرية من أبناء الشعب الذين يطالبون بتطهير هذا الجهاز باعتباره من بقايا النظام السابق الفاسد إلي جانب الخسائر التي يحققها بالمليارات من الجنيهات وفشله المهني يتطلب تحركا سريع لتحقيق هذا الهدف الأساسي والمهم من أهداف ثورة 52 يناير التي لم تتحقق. ولذلك اعتقد ان التليفزيون الذي اتاحت له ثورة 52 يناير فرصة لم يكن يحلم بها أكثر المتفائلين بالجهاز، فقد أصبح الإعلام المرئي والمسموع يناقش بحرية كل شيء ويستطيع ان يفتح نقاشا بين خبراء الإعلام ليتعرف علي آرائهم عن قرب ويشركهم في الوصول إلي الخيار الافضل من أجل مزيد من الانطلاق ليساير عصر التحرر ويواكب مرحلة التنافس الإعلامي الدولي، ومن أجل ان يصبح الإعلام المرئي والمسموع مؤسسة اقتصادية ناجحة تؤدي دورها الكامل دون ان تكون عبئا علي ميزانية الدولة. والسؤال الذي يتكرر كثيرا.. هل نحن بحاجة إلي كل هذا العدد من القنوات الأرضية والفضائية والإذاعية التي تمتلكها الدولة، وهل هناك اختلافات بينها يبرر وجودها جميعا وهل لدينا القدرة علي رفع كفاءتها أم يجب الاستغناء عن بعضها بالدمج أو الخصخصة؟