قيل أن الحكمة يمانية، وقيل أيضا لابد من صنعا وإن طال السفر، ولقد زرت صنعاء واليمن عدة مرات ولي فيها ذكريات، كما أن لي طرائف ومفارقات ولليمن، كما لمصر ولكل مهاد الحضارات العريقة العتيقة، طعم خاص يتذوقه زائرها ولا يسلاه، ومن ثم يعود إليها ليس كلما استبد به الحنين، ولكن لأن الحنين لا يفارقه! ولليمنيين أيضا كبلدهم سمات وميزات قد لا تقتضي الأفضلية، كما يقول الأصوليون الميزة لا تقتضي الأفضلية ولكنها تقتضي منك ألا تملهم ولا تقدر علي فراقهم.. ومن اليمنيين عرفت العشرات.. بل المئات منهم أدباء وشعراء وفنانون.. وغالبيتهم أهل سياسة من ناصريين وماركسيين، وأيضا إصلاحيين درجت تسميتهم بالإسلاميين. وصادفت في جلسات الحوار من حول موائد الغذاء، وبعدها التخزين بمضغ القات وامتصاص عصارته والاحتفاظ بما هو ممضوغ في أحد جوانب الفم حتي ينتفخ ويصير مثل كرة التنس، صادفت شخصيات مثيرة وموحية كان من أهمها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، الذي زرته أول مرة بصحبة الأخ والصديق المهندس عبدالحكيم جمال عبدالناصر، ووفد مصري كان من أعضائه الفريق أول مرتجي والفريق أنور القاضي وشقيق الشهيد المسيري، وفي تلك الزيارة حدثت تفاصيل قد يأتي الوقت لنشرها، وخلال سنين بعدها زرت صنعاء لأكثر من مرة ولم أزر الأحمر، فلما التقيته بعد أكثر من عشر سنوات أجلسني بجواره وذكرني بالزيارة الأولي وما قلناه فيها! ورحل الشيخ عبدالله الأحمر شيخ مشايخ قبيلة حاشد أكبر وأقوي وأهم القبائل اليمنية! وارتبطت أيضا بالصديق الشهيد جار الله عمر الاشتراكي اليمني حاد الذكاء شديد العزيمة الذي تجسدت فيه كل صفات منظومة القيم العربية العليا من وفاء وشهامة وإخلاص وكرم والتزام وجسارة، وقد اغتالته يد الغدر التي يحركها علي عبدالله صالح ضد كل رموز الوطنية ورموز الوفاق الوطني والقومي، وكان جار الله عمر في المقدمة منهم! وأصل الآن لمن هو أصل الكتابة عن اليمن في هذه السطور.. إنه صديقي المناضل الوحدوي القومي الدكتور عبد القدوس المضواحي شيخ مشايخ.. ورمز رموز العروبة والنضال والتقارب الناصري الماركسي الإسلامي! لقد رحل عبدالقدوس ولقي وجه ربه الكريم وهو في القاهرة، وقبيل رحيله بأيام قليلة كان في وسط ميدان التحرير، وهاتفني وهو مبتهج وكأنه يدور في دوامات النشوة التي لا قرار لها، وأخذ يصف لي احتفالات الشباب بعيد رأس السنة الميلادية 2012 في الميدان، وكيف أنه أمر يأخذ العقول ويسلب الألباب! كنت كلما التقيته وفرغنا من الأحضان والقبلات أساله: ما أخبار التخلف اليمني؟!.. وننخرط في ماراثون ضحك وتريقة وقفشات، ويأخذ هو جانب التنكيت علي اليمنيين، وأتولي أنا الجانب المصري، وما قد يطرأ عن أجناب أخري كلبنان والسودان والخليج والعراق وغيرها ولم لا.. ونحن في القومية والعروبة أخوة وفي همومها كلنا في الهم شرق! اصطدم عبد القدوس المضواحي بنظام الحكم بعد اغتيال صديقه وصديقنا المناضل الناصري العريق الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي ومعه شقيقه، وكان الذي دبر اغتيالهما هو علي صالح والغاشمي.. الأمر الذي عز علي أصدقائنا في جنوب اليمن، وخاصة سالم ربيع علي الذي كانوا ينادونه اعتزازا "سالمين" فأرسل مسئولا جنوبيا كبيرا يحمل رسالة إلي الغاشمي، وعند اللقاء فتح المسئول الحقيبة التي بها الرسالة لتنهي حياة كل من في القاعة انتقاما للغدر بالحمدي! وجاء علي عبدالله صالح ويقال أنه كان برتبة شاويش، ثم رعته اليد البيضاء للشهيد الحمدي، وكان الجزاء هو المساهمة في اغتياله.. وكان الحمدي وشقيقه وصالح وغيرهم من العسكريين أعضاء في تنظيم ناصري وحدوي، وفي لحظة محددة انقض صالح علي التنظيم وقتل ثلاثمائة من خيرة الشباب القومي الوحدوي دفعة واحدة بدعوي أنهم كانوا يعدون لثورة علي النظام، وأفلت عبدالقدوس من القتل الذي طال عديدين من أقرب الناس إلي قلبي وعقلي، كان في مقدمتهم صديقي المفكر الفذ عيسي سيف، وصديقي عبد السلام مقبل وآخرون.