عندما سافرت الوزيرة فايزة ابوالنجا إلي امريكا في ربيع العام الماضي للمشاركة في الاجتماعات الدورية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كانت قد سبقتها رسالة من السفيرة الامريكيةبالقاهرة سكوبي إلي الادارة الامريكية تحذرهم من وزيرة التخطيط والتعاون الدولي وتتهمها بانها تعرقل تطوير العلاقات المصرية الامريكية.. وقد حرص وزير الخزانة الامريكي علي ان يطلع الوزيرة فايزة ابوالنجا علي هذه الرسالة وهي خطوة في العرف الدبلوماسي تتضمن التعبير عن عدم الرضا من قبل الامريكان تجاه السياسات المصرية التي ادرك الوزير الامريكي انها ليست سياسات وزيرة فقط، انما هي سياسات الحكومة المصرية كلها، وقبلها بالطبع المجلس الاعلي للقوات المسلحة الذي كان قد تولي ادارة شئون البلاد قبلها ببضعة اسابيع قليلة فقط. وهكذا.. لم تمض العلاقات بين الادارة الامريكية والمجلس الاعلي للقوات المسلحة علي نحو يخلو من المشاكل والهواجس منذ وقت مبكر، وذلك علي عكس ما حاول البعض استنتاجه خلال فترة الانتفاضة الثورية من مصادفة وجود الفريق سامي عنان رئيس الاركان في العاصمة الامريكية اثناء انفجار هذه الانتفاضة.. حيث تصور اصحاب هذا الاستنتاج ان ثمة شيئا أو علي الاقل تفاهما بين المؤسسة العسكرية وواشنطن. بل علي العكس تماما فان هذه العلاقة بين المجلس الاعلي للقوات المسلحة والادارة الامريكية شهدت علي مدار الشهور الماضية ازمات مكتومة وربما كان اهم هذه الازمات ما حدث في اعقاب إلقاء القبض علي الجاسوس الاسرائيلي ايلان الذي كان يحمل جنسية امريكية.... حيث عطلت واشنطن بشكل متعمد صفقة اسلحة لمصر في اطار برنامج المساعدات العسكرية، بل انها ماطلت في منح احد اعضاء المجلس الاعلي للقوات المسلحة تأشيرة دخول للعاصمة الامريكية رغم ان هذا العضو بحكم مسئوليته يتولي المشاورات المصرية مع الجانب الامريكي بخصوص تنفيذ هذا البرنامج. وأي تحليل مضمون لما تنشره وتذيعه الصحف ووسائل الاعلام الامريكية سوف يسفر عن استخلاص نتيجة مهمة تتمثل في ان الفتور أو فلنقل النفور الامريكي تجاه المجلس الاعلي للقوات المسلحة ليس سببه حرص امريكي علي انجاز التحول الديمقراطي الكامل في مصر، أو يعكس تخوفا امريكيا من استمرار الحكم العسكري في مصر.. وانما يرجع سببه إلي رفض المجلس العسكري استباحة الامريكان لمصر، والتعامل معها وكأنها بلا دولة ولا حكومة مسئولة، والاصرار علي تقديم المنح المالية بشكل مباشر لمن يتلقون هذه المنح، سواء كانوا يعملون في المجتمع المدني أو حتي في جهات حكومية وهيئات عامة.. والدليل ان الامريكان فتحوا منذ وقت مبكر وفور تنحي مبارك خطوط اتصال مع القوي السياسية التي توقعوا ان تتقدم الصفوف في الانتخابات البرلمانية، وكذلك مع كل الشخصيات التي توقعوا ان لها قدرا مناسبا من الحظ الانتخابي في انتخابات الرئاسة. اي انهم كانوا يعرفون ان المجلس الاعلي للقوات المسلحة سوف يسلم السلطة لمن سوف ينتخبه الشعب.. بل ان عددا من مسئوليهم اطلقوا تصريحات تنطق بالرضا أو فلنقل بالاطمئنان علي تنفيذ خارطة الطريق الخاصة بتسليم السلطة التي اعدها المجلس الاعلي للقوات المسلحة. لذلك.. كان مفاجئا أو لافتا للانتباه ان يطلق الرئيس الامريكي الاسبق چيمي كارتر الذي يعرف الجميع انه يقوم بمهام امريكية خاصة، ان لديه انطباعا بأن المجلس العسكري لن يسلم السلطة بالكامل، وانه حريص علي الاحتفاظ بقدر من النفوذ، خاصة فيما يتعلق باستثماراته ومساهماته في العملية الانتاجية.. وكأن الرئيس الامريكي الاسبق لم يشأ بعد ان اشاد بالانتخابات البرلمانية التي اجراها المجلس العسكري إلا ان يوجه إليه ضربة تحت الحزام قبل ان يغادر القاهرة عائدا إلي بلاده. وبغض النظر عن دوافع الرئيس الاسبق كارتر في اطلاق هذه التصريحات في هذا الوقت بالذات حول مقدار السلطة الذي سوف يسلمه العسكريون للمدنيين في مصر، وهي بالقطع دوافع ليست بريئة، فان حديث كارتر عن نفوذ للمؤسسة العسكرية في مصر يستحق التوقف امامه للتأمل والكشف عن ازدواجية المواقف لدي الامريكان. فهؤلاء الامريكان لديهم مؤسسة عسكرية ضخمة تتمتع بنفوذ قوي داخل بلادهم.. لا رئيس يستطيع ان يتخذ قرارا سواء بالحرب أو السلام بدون موافقتها أو رضاها.. لقد تمكن اوباما ان يبدأ في سحب القوات الامريكية من العراق بعد موافقة البنتاجون.. بينما اضطر لتأجيل تنفيذ رغبته بتقليل اعداد القوات الامريكية في افغانستان ووافق علي العكس، اي زيادة اعداد هذه القوات استجابة لرغبة القادة العسكريين. ان ما يهمنا في هذا الصدد بالدرجة الاولي ألا تكون هناك هيمنة للمؤسسة العسكرية علي السلطة المدنية المنتخبة أو ألا يكون للجيش دور خاص يعهد اليه لحماية مدنية الدولة علي غرار ما حدث في تركيا، وهو ما أتاح لجيشها تنظيم انقلابات علي حكومات منتخبة اطاحت بها. ما يهمنا ان نمنح ما لقيصر لقيصر وما لله لله.. اي ان نمنح الجيش ما يساعده علي القيام بمهمته الاساسية وهي حماية ارض واستقلال وأمن البلاد.. وان نمنح الناخبين حقهم في اختيار حكامهم وايضا حقهم في التخلص منهم عبر صناديق الانتخابات. ولقد قال المشير طنطاوي بوضوح لا لبس فيه ان وضع الجيش في الدستور الجديد هو ذاته في الدستور الذي وجدناه وهو دستور 17.. اي لا دور سياسي خاص له.. اما احتفاظ الجيش بادارة استثماراته الحالية أو حتي قيامه باستثمارات اخري مستقبلا، واحتفاظه بعائدها للانفاق علي احتياجاته فهذا امر لا ينتقص من السلطة المدنية، ما دمنا سوف نتفق علي طريقة للرقابة الشعبية علي هذه الاستثمارات .