ولأنني قلت ضمن ما قلت علي مدي الشهور الماضية ان الشعب المصري استنفر أفضل ما فيه ونجح في ثمانية عشر يوما في اسقاط نظام ديكتاتوري متغطرس حكم البلاد لنحو ثلاثين عاما معتمدا علي الآلة الأمنية البشعة التي تدخلت في كل شيء وتجاهل أحكام القضاء وزور ارادة الناخبين واستخدم اساليب المنع والقمع لايقاف معارضيه وتخويفهم وأن الشعب المصري الذي استنفر أفضل ما في شخصيته عاد ليخرج أسوأ من فيه من فوضوية وصخب وضجيج في الشهور الماضية التي شهدت أكبر قدر من الاحتجاجات الفئوية والاعتصامات والمظاهرات وقطع الطرق ومحاصرة الموانيء وغيرها. فانني أجد نفسي اليوم مدينا بتقديم اعتذار لهذا الشعب الرائع المتحضر علي المشهد الديمقراطي الذي قدمه في المرحلة الأولي من انتخابات مجلس الشعب التي تستكمل فيها اعتبارا من اليوم مرحلة الاعادة . فقد كان حضور نحوعشرة ملايين و634 ألف ناخب في المحافظات التسع من بين 17 مليونا و522 الفا مسجلين في جداول الاقتراع بنسبة بلغت تقريبا نحو 62 ٪ وهي أعلي نسبة في تاريخ مصر منذ الفراعنة بمثابة رسالة شديدة الوضوح للعالم كله بأن هؤلاء المصريين الواعين المتحضرين مصرون علي أن يواصلوا ادهاش العالم دائما حتي ان المعلق البريطاني روبرت فيسك قال ان هذا الحضور الضخم والوقوف في طوابير بالساعات كان كافيا ليشعر الأوروبيون بالخجل وهم الذين دوما ما يتباهون بديمقراطيتهم . صحيح أن النتيجة الكاملة للتصويت أكدت أن هناك نحو 612 صوتا باطلة بسبب أنها كانت التجربة الأولي للانتخاب الفردي والانتخاب بالقائمة النسبية في وقت واحد لكن هذا هو خطأ الأحزاب التي "وجعت راسنا" باصرارها علي الانتخاب بالقوائم واذا بكل رموزها يتنافسون في الانتخابات الفردية "ويفشلون " . وبقدر سعادتي بهذا الحضور الهائل الذي أتمني أن يستمر علي نفس المستوي في المرحلتين الثانية والثالثة بقدر اندهاشي الشديد من عدم توقف هؤلاء من أدعياء الثقافة وأنصاف وأرباع المثقفين عن استمراء التحدث باسم الشعب المصري و المضي قدما في الضحك علي أنفسهم وعلينا وخداع ذواتهم وخداعنا بأنهم مبعوثو العناية الالهية لحمل آمال وتطلعات المصريين الي حيث يمكن أن تتحقق الآمال والطموحات . وكم كان بليغا ذلك المواطن المصري البسيط الذي ظهر علي شاشة التليفزيون معترفا بأنه أمي وهو يقدم درسا بليغا للجميع وهو يؤكد أنه جاء ليؤدي دوره في المشاركة الايجابية من أجل أن يقول لأمثال هؤلاء من النخبويين متصدري شاشات الفضائيات ليل نهار أنه يستطيع أن يعبر عن نفسه ولا يحتاج الي من يتحدث باسمه أو نيابة عنه . وهذا هو الدرس الأول والرسالة الأولي التي ينبغي علي الجميع أن يعيها بوضوح ان ملايين المصريين الذين خرجوا في كل مكان انما كانوا يعلنون أنهم سئموا حال الفوضي والفلتان وأنهم ينتظرون الاستقرار للبناء ويرفضون الفوضويين ودعاة التدمير الخلاق . لكن مع كل الأسف فان هؤلاء الأدعياء أنفسهم يتحسسون مدافعهم الثقيلة وليس مسدساتهم فقط بمجرد أن يسمعوا تعبير الاستقرار أو البناء تماما كما فعل وزير الدعاية النازي جوزيف جوبلز عندما قال قولته المشهورة : " عندما أسمع كلمة الثقافة أتحسس مسدسي" . وهنا ندخل الي السؤال الصعب الذي تكرر علي مسامعي كثيرا : وماذا عن التفوق الكاسح لحزب " الحرية والعدالة" الذراع السياسية لجماعة الاخوان المسلمين وللظهور المفاجيء لحزب" النور "الذي هو الذراع السياسية للحركة السلفية وهو التفوق الذي ينبيء بامكان حصول هذين الحزبين ومعهما حزب "الوسط" الاسلامي التوجه ايضا علي نحو 65 ٪ علي الأقل من مقاعد مجلس الشعب القادم ؟ . وفي هذا أقول ان الاخوان - الذين حوصروا لأكثر من ثمانين عاما وتعرضوا لأبشع أنواع القمع منذ مصر الملكية ومرورا بنظام محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر وتنفسوا بعض الشيء مع أنور السادات وأخيرا عانوا أقسي معاناة - في ظل حسني مبارك - لم يتوقفوا عن العمل الاجتماعي في الشارع وفي السنوات الأخيرة تضاعفت مشروعاتهم في مجالات الصحة من خلال مستشفيات ومراكز طبية بأسعار التكلفة ومشروعات تعليمية وثقافية ومشروعات تجارية في مختلف الأوجه تخدم الناس بتوفير السلع الغذائية والملابس وغيرها بأسعار رخيصة وذلك في معظم أنحاء مصر المحروسة لا فرق بين المناطق الشعبية الفقيرة والمناطق التي تسكنها الطبقة الوسطي . وفي هذه المشروعات يتم توفير مئات الآلاف من فرص العمل التي تخدم المجتمع لذلك لم يكن من الصعب مطلقا أن يجد حزب" الحرية والعدالة " قواعده الشعبية جاهزة لدعمه بكل القوة في أول انتخابات نزيهة تماما تجري في مصر منذ عام 1952 . ولا ننسي ان الحزب لم يقدم مرشحين له الا في نصف الدوائر وهذا التفوق الكاسح ليس غريبا علي الاخوان فهم الذين حصدوا 88 مقعدا من 95 مرشحا في المرحلة الأولي النزيهة الوحيدة تحت الاشراف القضائي التي أجريت في العام 2005 قبل أن يتدخل صفوت الشرف أمين عام الحزب الحاكم وقتها ويغلق الدوائر من الخارج "بالضبة والمفتاح "مستخدما قوات الأمن بمختلف مسمياتها . لكن المفاجأة الصعبة هي التفوق الكبير لحزب النور السلفي الذي لا يجيد بالمرة التعامل السياسي فالسلفيون لا يحبون أصلا العمل بالسياسة وفي حالة فوزهم بنسبة 20 ٪ من الأصوات سيكون الموقف صعبا تماما . لكن من حظ مصر وجود الاخوان المسلمين بوصفهم الجهة الأقدر علي كسر شوكة السلفيين ومواجهتهم بخبرتهم السياسية الطويلة علي مدار عقود ثمانية حتي لا تنتكس الديمقراطية ويتعذب الشعب باختياراته وتصبح المواجهة محتومة بين التيار الاسلامي والمجلس الأعلي للقوات المسلحة علي نسق ما جري في الجزائر بعد فوز حركة الانقاذ الاسلامية بالأغلبية الكاسحة في الانتخابات هناك قبل خمسة عشر عاما . ودونما انحياز لتيار دون الآخر فانني أعتقد أن مشاركة النسبة الغائبة عن التصويت في المرحلة الأولي والبالغة 38 ٪ في المرحلتين الثانية والثالثة واستعادة حزب الوفد لقواعده التي اختفت في ظروف غامضة وتحرك اليساريين والليبراليين بقوة يمكن أن يحقق تغييرا في المعادلة لأن استحواذ الاسلاميين علي 65 ٪ من مقاعد البرلمان ربما يضعنا في ورطة قد لا يكون الخروج منها يسيرا علي رغم كل قواعد الديمقراطية وضرورة احترام اختيارات الناخبين علي أساس أنهم وحدهم هم القادرون علي الدفاع عن اختياراتهم ودعم من ينتخبونهم في العمل السياسي . وكلي ثقة في حكمة الاخوان المسلمين علي ادارة هذه المعركة بحنكة من أجل مصر أولا وأخيرا . كما أرجو من كل قلبي أن تتوقف التصريحات والمواقف التي تخرج عن كبار المسئولين في جماعة الاخوان والتي تحمل نوعا من غرور القوة وتعالي المتغطرسين بنجاحاتهم السياسية حتي لا يتسبب ذلك في اثارة مخاوف الداخل أكثر والخارج أكثر وأكثر من المستقبل السياسي القريب . حفظ الله مصر وطنا للعدل والحرية والأمن والأمان .