أفسح المجال اليوم لرسالة مهمة تلقيتها من الأستاذ الدكتور سامح العلايلي العميد الأسبق لكلية التخطيط العمراني ، ومستشار محافظ القاهرة . وهو من المهتمين بالعمران المصري . يعبر عن هذا الاهتمام بالحديث علنا عن آرائه المدعومة بمعلومات ثرية بين الحين والآخر . في هذه الرسالة يفتح للمرة الأولي النقاش حول القصر الرئاسي في مصر الجديدة وذلك في توقيت مناسب قبل إجراء الانتخابات الرئاسية بعدة أشهر ، والتي ستكون الانتخابات الأولي من نوعها في تاريخ مصر . لذا فمن المناسب تماما أن توضع الأمور في نصابها الصحيح في كل ما يتعلق بمنصب الرئيس بما فيه المقر الرئاسي . وحتي نبدأ بالفعل عصرا جديدا أفضل لمصر بعد ثورة يناير . يقول الدكتور العلايلي في رسالته : " فطنت كثير من المجتمعات إلي ما يُمكن أن يُمثله التراث المعماري العمراني من قيمة اقتصادية بالإضافة إلي قيمته المعنوية ، بحسن توظيفه واستثماره في أغراض تُناسبه .. تُحقق مردودا اقتصاديا واجتماعيا يسمح بحمايته وصيانته وإظهاره دائما في مظهر مُتألق ، الأمر الذي ينعكس بالإيجاب علي البيئة المحيطة وعلي أداء وقيمة المجتمع عالميا . من بين عناصر التراث ذي القيمة أمثلة عديدة لا حصر لها . يمتد تواجدها علي اتساع أراضي مصر في المدن والقري علي حد سواء . أحد أهمها مبني فندق "هليوبوليس بالاس" أكبر وأضخم فندق في العالم في زمنه . ذلك الفندق الذي أقامه البارون البلجيكي ادوارد إمبان رجل الأعمال المستنير عام 1909 من بين منظومة مُبتكرة من الخدمات والمنشآت المتنوعة التي أقامها للترويج لمشروعه الطموح "هليوبوليس مدينة الشمس" ، رائدة المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر وربما في العالم . كان الترويج المبتكر هو سلاح أمبان الرئيسي لإنجاح المشروع في مواجهة تحد عظيم بكافة مقاييس زمانه . بفضل مواهبه وإصراره نجح في النهاية في تحقيق حلمه . جاءت النتيجة ميلاد نموذج مثالي لمجتمع عمراني مُتجانس متعدد الثقافات والأعراق، يتناوله الباحثون في جامعات العالم بالدراسة . من بينهم الباحث الفرنسي القدير Robert ilbert الذي حصل علي درجة الدكتوراه من جامعة Université de Provence عن قصة "هليوبوليس مدينة الشمس". استمر تألق ضاحية مصر الجديدة كواحة هادئة في قلب الصحراء بفضل نظام إدارة عمران صارم طبقه إمبان، مماثل للنظم التي كانت مطبقة في المدن الأوروبية وقتها . امتد تأثيره بفاعليه علي حركة النمو العمراني زهاء نصف قرن من الزمان . ولأن دوام الحال من المحال تم تأميم شركة مصر الجديدة التي كانت أسهمها متداولة في البورصات العالمية ، وواحات عين شمس التي أنشأها إمبان ، في أوائل الستينيات من القرن الماضي. تم تعيين أحد صغار الضباط المقربين من نظام 1952 رئيسا للشركة . عندها حدث تغير في نظام الشركة وفي الضوابط الحاكمة للنمو العمراني وإدارته مما انعكس سلبا علي أحوالها ، بدأ بطيئاً ثم تسارع بمرور الوقت . أدي في النهاية إلي ظهور معالم شيخوخة مُبكرة علي الضاحية الجميلة . إلا أن الضربة القاضية جاءت مع تطبيق نظام الإدارة المحلية. انتقلت تبعية إدارة العمران إلي الأحياء ، وتبعية المرافق والخدمات إلي جهات حكومية مركزية وشركات قابضة. بذلك تحولت شركة التنمية العمرانية العالمية إلي شركة إسكان محلية تابعة للشركة القابضة. انحصر نشاطها الوحيد في إقامة مشروعات إسكان نمطية مثل إسكان شيراتون وابتعدت تماما عن فلسفة مشروع إمبان . انتهي الأمر بتعرض قلب مصر الجديدة التاريخي إلي فوضي عمرانية شاملة . أما عن الامتدادات التي أنجزتها الشركة بمسماها الجديد فلم تخرج عن كونها رصات عشوائية لكتل خرسانية عديمة الهوية لا يمكنها بأي حال أن تُعبر عما كان عليه ماضي عمران مصر الجديدة. تعرض مبني هليوبوليس بالاس منذ إنشائه في عام 1909 إلي مواقف متباينة . تحول إلي مستشفي عسكري لجرحي حروب 1914 و 1939 و1948 . في مرحلة أخري استخدم مدرسة للطيران . وفي أوائل الستينيات تحول إلي مقر الحكومة المركزية لاتحاد مصر وسوريا . بعد فض الوحدة عادت تبعيته إلي قطاع السياحة حيث تمت إعادة تجهيزه لتشغيله فندقا خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي. استمرت أعمال التجهيزات سنوات ، وقبل أن يبدأ تشغيل الفندق في أوائل الثمانينيات وضعت رئاسة الجمهورية يدها علي المبني لتحوله إلي مقر للرئاسة . مما تتطلب إزالة كافة التجهيزات التي تم إعدادها وإعادة تأثيثه من جديد ليتحول المبني بذلك إلي مقر رئاسي يفوق في حجمه أحجام ثلاثة قصور رئاسية عالمية هي البيت الأبيض وقصر الإليزية و10 داوننج ستريت مجتمعة !! الآن وفي ظل ذلك العهد الجديد ، بعد أن انقضي عهد الحاكم الإله المحاط بحاشية لا تُعد ولا تُحصي، وجيوش من الحراسة والأمن لم يسبق لها مثيل ، احتلت دون حسيب ولا رقيب مساحات أراض وقصورا تاريخية وأصولا عقارية هائلة الحجم لا تبررها وضعية مصر إحدي دول العالم الثالث المثقلة بالديون .. مصر التي تتحسس طريقها نحو المستقبل ، بداية من إزالة الآثار السلبية المتراكمة لفساد العهد البائد في كافة مناحي الحياة تمهيدا لإقامة دولة عصرية تتحقق فيها معايير الحرية والعدالة وحقوق الإنسان . يخضع حكامها للمراقبة والمحاسبة ولإعادة الرئيس القادم لمصر وخدماته الرئاسية إلي حجمها الطبيعي المناسب لخدمة الشعب وليس لسيادته.. من هذا المنطلق فإن الشعب يطالب باسترداد مبني "هليوبوليس بالاس" أحد أصوله التراثية والاقتصادية لإعادة تشغيله طبقا لوظيفته الأصلية .. كأحد أكبر وأضخم فنادق العالم . اما عن مقر الرئاسة القادم فلا شك في أن هناك بدائل عديدة لتوطين مقره الدائم بما يُحقق متطلباته المكانية التي تُمليها طبيعة العمل دون إفراط أو تبذير " انتهت رسالة الدكتور سامح العلايلي ، ليبدأ حوار مفيد حولها علي ما أرجو.