مازال البعض يتصورون خطأ ان مجال النضال السياسي لا يتجاوز حدود الشاشة الصغيرة ومقاهي النخبة ونواديها.. لكن منهم من تمادي في الخطأ حينما انطلقوا في إطلاق تخمينات واكاذيب كأنها حقائق، ثم تصديقها والسعي لترويجها.. وحينما حان موعد الاحتكام لرأي الشعب وجدوا انفسهم عاجزين حتي عن تقديم مرشحين قادرين علي المنافسة في الانتخابات البرلمانية.. بينما كان الاخوان وحلفاؤهم من انصار الدولة الدينية مشغولين بالتقرب للناخبين لكسب أكبر عدد من اصواتهم، وحصد العدد الاكبر من المقاعد البرلمانية والامساك بالحكومة القادمة. وأحدث ما يروجه هؤلاء الآن، في كل مكان يقول ان الانتخابات البرلمانية التي دارت عجلتها لن تتم، وسوف يستثمر الجيش اندلاع احداث عنف متوقعة تصاحبها لتأجيل هذه الانتخابات لأجل غير مسمي، وبالتالي سوف يفرض الجيش وقتها قبضته علي الحكم، ليستمر الحكم العسكري ويتبدد أملنا في الحكم المدني الديمقراطي.. وبالطبع يستند هؤلاء فيما يروجونه إلي احداث العنف والبلطجة التي لم تتوقف وهي الاحداث التي بلغت ذروتها بمأساة ماسبيرو. واذا كنا لا نستطيع ان نجادل هؤلاء أو غيرهم في ان خلل الامن مازال مستمرا وانه لم يتوافر لنا الحد الادني من الامن إلا اننا لا نجد دليلا واضحا سوي التخمينات فقط علي ان الجيش ينوي استثمار احداث العنف لتأجيل الانتخابات البرلمانية أو الغائها وهو الذي كان يتمسك باجرائها مبكرا، بينما القوي السياسية هي التي ألحت في التأجيل. بل ان المجلس الاعلي للقوات المسلحة لم يستجب لمن يطالبونه اليوم بمزيد من التأجيل ويصر علي اتمام الانتخابات في موعدها ويتعهد بتوفير الامن لنجاحها وسبق ان نفذ المجلس وعده بتأمين الاستفتاء علي التعديلات الدستورية. لكن هنا يشهر هؤلاء التخمين الثاني لهم الان والذي يروجونه منذ وقت مبكر ويتمثل في ان الجيش غير مكترث بتحقيق الامن في البلاد لانه يريد ان يدعوه الشعب لفرض قبضته أكثر وبإحكام علي السلطة.. أي يحول انفراده بالسلطة وعدم تسليمه لها للمدنيين إلي رغبة شعبية. ودليل هؤلاء علي كلامهم هذا ان البلطجية معروفون لاجهزة الامن لانهم كانوا يتعاملون معهم ويكلفونهم باعمال مقابل أجر، وبالتالي في مقدورهم كما يقال ويتردد في غضون ساعات قليلة القبض عليهم وبذلك سوف يتحقق الامن فورا. وحتي مع التسليم بحقيقة ان البلطجية معروفون لاجهزة الامن، ومع استبعاد انه اصبح لدينا بلطجية جدد غير معروفين للشرطة.. إلا ان ذلك ليس معناه ان الشرطة قادرة في ظل ارتباك غير بسيط اصابها هيكليا علي جمع هؤلاء البلطجية في ساعات.. ولعلنا تابعنا ما تعرض له رجال الشرطة من مقاومة مسلحة من قبل بعض هؤلاء البلطجية عندما حاولوا إلقاء القبض عليهم.. ثم يجب ان نتذكر ان غياب الأمن لا يحسب للمجلس الاعلي للقوات المسلحة، انما يحسب عليه فكيف يغامر المجلس في استقرار هذا الغياب الامني فترة طويلة هكذا؟! أليس الامر يتجاوز هنا الرغبة في تحقيق الامن إلي محدودية القدرة علي تحقيقه؟ أما أكثر هذه التخمينات التي شطح بها خيال مناضلي الفضائيات والنوادي والمقاهي فهي تدعي بان المخابرات العسكرية تقف وراء إنشاء عدد من الاحزاب السياسية التي ترتدي ثوب الثورية وتضم كوادر شبابية وذلك لتجهيز المسرح السياسي مستقبلا لاستمرار حكم العسكر. ورغم ان هذه الشطحة الكبيرة لا يجد من يقول بها ويروجها لمجرد قرائن تؤكدها أو تعزز تصديقها، إلا انهم مع ذلك لا يكفون عن ترويجها.. بل ويذكرون اسماء لسياسيين شباب وغير شباب يشاركون الان في قيادة احزاب جديدة، ومنهم من رشح نفسه في الانتخابات البرلمانية القادمة. ومن السهل بالطبع ان نكتشف ان هؤلاء استبدلوا المجلس الاعلي للقوات المسلحة بالنظام السياسي السابق، رغم انه يؤدي مهمة محددة ستنتهي باعلان نتيجة انتخابات رئاسة الجمهورية.. وبالتالي هم يستبدلون جهاز المخابرات العسكرية بجهاز مباحث امن الدولة. لكن ليس من السهل بالطبع القبول بهذه الشطحة الغريبة، لان جهاز المخابرات الحربية لا دور له بالامور الداخلية منذ هزيمة 7691.. ولا خبرة له بالتالي في مجال السياسة الداخلية حتي يسعي لاستقطاب سياسيين شباب من الثوار لتجنيدهم وتوجيههم.. اما مبادرة المجلس الاعلي للقوات المسلحة بمساعدة الشباب في تأسيس احزابهم والتقدم للانتخابات فهو امر معلن وعلي رؤوس الاشهاد.. وفوق ذلك هو أمر يستحق الشكر عليه، لا استخدامه للهجوم عليه والتشكيك في نواياه الخاصة بتسليم السلطة. ويرتبط بالانتخابات ايضا ما بدأ يروجه هؤلاء حول صحة الطريق الذي سلكته تونس لبناء نظام ديمقراطي جديد في الوقت الذي سلكت فيه مصر الطريق الخطأ. وهذا الكلام يعكس قناعة غريبة بان هناك كتالوجا سياسيا واحاد لابد من إتباعه في الثورات رغم ان ما حدث في الثورات الفرنسية والروسية والصينية اختلف.. أي انه ليس هناك موديل واحد يجب تطبيقه علي الجميع.. نعم تونس بدأت اولا بانتخاب لجنة تأسيسية لاعداد دستور جديد.. ولكن أليست تلك الانتخابات تمت مثل الانتخابات التي سنخوضها قريبا؟.. وحتي اذا كنا اخطأنا أليس السبيل الوحيد لنقل السلطة هي الانتخابات.. فلماذا لا نركز جل جهودنا جميعا علي إتمامها بنجاح؟.. لماذا لا نشارك في تأمينها والتصدي لمن يريد إفشالها؟ واذا كان لدي البعض منا شكوك في نوايا المجلس الاعلي للقوات المسلحة حول تسليم السلطة فان انجاز الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية هو سبيلهم للتخلص من هذه الشكوك والاطمئنان علي مستقبلنا السياسي في دولة مدنية ديمقراطية عصرية.