لعل الوطن العربي لم يشهد لحظة تماثل ما يمر به الان من خلال حقبة التحرر من الاستعمار فكلا اللحظتين فرضتا حتمية الاختيار وضرورة بلورة ارادة الجماعة الوطنية والتفافها حول خيار واضح، وذلك للعبور بين مرحلتين، فإذا كان جلال المقصد هو القاسم المشترك بين اللحظتين التاريخيتين فإن واقع أمر الجماعة الوطنية يعكس تباينا واضحا سواء من حيث وحدة الهدف وجماعية الكفاح وبين ما نراه الان من تشرذم وانقسام وتغليب للفردية. ولعله من المفيد قبل الخوض نحو تحليل الوضع الراهن، الانتباه لضرورة ربط قراءة اي تحولات يشهدها محيطنا وواقعنا بطبيعة المكان، فما تمر به مصر ليس بمعزل عما يدور حولها بدءا من تركيا وصولا لاعالي النيل جنوبا والمغرب غربا، فربط تحولات الزمان بالشخصية السياسية للمكان عنصر أساسي لا مفر منه لتقييم ما يمر بنا من تحولات، وهو ما ادعي فيه السبق ولكنها النتيجة الطبيعية التي نخلص اليها من عبقرية مكان جمال حمدان، ورؤية الاستاذ هيكل في كتاباته حول مرحلة حرب الثلاثين عاما وما لحقها من تحولات في عالمنا العربي سواء حرب الخليج الاولي والثانية وصولا للربيع العربي وهي رؤية استوعبت تمام الاستيعاب تأثير المكان علي ما يصيبه من تحولات أو ما يحل به من متغيرات. ودون اطالة يري المتأمل في خروج الشعوب العربية طلبا للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية نبلا وسموا لا يقارن في التاريخ إلا بما قدمته الثورة الفرنسية من اثراء للحضارة الانسانية ويتفوق عليها في التمسك بالمنهج السلمي في التغيير. والغريب في الأمر انها هي ذات الشعوب التي طالما اتهمتها النخبة أو ما تسمي بالنخبة، بالخنوع، والانكسار وافتقاد الحمية الوطنية اللازمة للتعبير عن رفض ظلم واضطهاد النظم السياسية، إلا ان ذات الشعوب استحضرت مخزونها الحضاري وقامت بالتعبير عن رغبتها في التغيير بشكل اجبر العالم علي احترامه بالوصول الي تلك المرحلة من المفروض ان الشعوب قد تكون أدت ما عليها وبما مهد الطريق ويأذن بتولي نخبة سياسية كان من المفترض ان تكون مسئولة في تولي دفة العمل السياسي برؤية واضحة لا تستهدف إلا مصلحة الجماعة وانكار الذات لصالح الوطن إلا ان تفاعل النخبة مع مرحلة ادارة التغيير جاء ضعيفا ومهتزا ومبالغا في تغليب المصلحة الفردية علي حساب المصلحة الوطنية الجامعة، بالطبع التعميم خطأ جسيم، فهناك رموز العمل الوطني لا تشوبها شائبة نجدها حية كالضمير تؤثر مصلحة الكل علي الجزء ولنا في الاساتذة محمد غنيم وأبوالغار وجورج اسحاق ود. عبدالمنعم ابوالفتوح ونبيل العربي مثالا، الا ان الغالبة تعمل بمنظور بالغ الضيق سواء من جانب بعض المرشحين الرئاسيين، سواء المتعجل منهم بحكم تقدم السن علي تقديم الانتخابات الرئاسية، أو أحد المرشحين الذي يتحمل مسئولية مباشرة عن اشعال الفتنة الطائفية من خلال تصريحات تتهم الاديرة بحيازة السلاح ونجده يدعو بعد فوات الاوان للتعقل واخر من اساتذة العلوم السياسية ظاهرة في الانتشار الاعلامي فبتنا مجبرين علي متابعة تطورات مشاعره في بعض الاحيان أو الاستماع مثلا لعباراته المطولة التي توحي بالخطوط المستقيمة في التعبير عن الرأي ولكنها لا تعدو ان تكون دوائر يصعب قراءة بدايتها من نهاياتها، اضافة الي بعض الناشطين ممن باتوا يمارسون ديكتاتورية مماثلة لديكتاتورية الحزب الحاكم السابق والمنحل فإما التماشي في الهجوم واستهداف المؤسسة الوطنية الباقية الصالحة لادارة الحكم وهو ما يعتبرونه معيار الايمان بالثورة وإما الاتهامات المسبقة بالرجعية وعدم الثورية والخيانة. الامر الذي وضع امثالي في محنة غريبة فمن ناحية نؤمن بالثورة علي نظام مبارك القاهر للانسان وكرامته لكننا من ناحية ندرك تمام الادراك ضرورة ادارة الحوار السياسي مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة بمسئولية ليس نفاقا للقوات المسلحة وإنما حماية لمفهوم لدولة الذي بات علي المحك. فالمراقب للشعارات الاخيرة التي يطلقها بعض هؤلاء يجدها في المضمون تستهدف اسقاط فكرة الدولة أو ما تبقي منها فلم تعد العدالة الاجتماعية مبلغا وإنما بات المستهدف اسقاط حكم العسكر بكل ما تحويه هذه الجملة من احتقار ضمني لجهة وطنية لم توجه يوما سلاحها الي الشعب، ولكنه للاسف تأثر برؤيا غريبة تسعي لمحاكاة جيش وطني، سواء عن جهل أو عن قصد بتجارب دموية في افريقيا وامريكا اللاتينية بعيدة كل البعد عن تاريخنا المصري، الذي اقترن فيه ازدهار مشروع الدولة الحضاري بحضور المؤسسة العسكرية والتفاف الشعب حولها. لذا اجدني اقف أمام فكرة تراودني منذ فترة لماذا نجد ذلك الاهتمام الخارجي بشعارات »اسقاط حكم العسكر« في الوقت الذي نجد صمتا غريبا ازاء أوضاعها بالغة التردي لحقوق الانسان في العديد من الاقطار الملكية الشقيقة بلغ حد التدخل العسكري ضد احدي انتفاضات الربيع فمن الواضح ان ادارة المرحلة الانتقالية من قبل النخبة السياسية تدفع بالوطن في اتجاه تجربة ديمقراطية مشابهة في كثير من الاوجه مع تجربة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وهو ما تتشابه معه في طبيعة الاحزاب الهشة التي لا تعكس التفافا شعبيا حول مبادئها قدر ما تعكس رغبة مؤسسيها في تعزيز رؤية ذاتية وتأمين مصالح طالما سعوا لتحقيقها علي مدار عقود طويلة من العمل لاسياسي المغلف بالطابع لاديني، اضافة بروز المطالب الفئوية واشتعال الوضع الطائفي وهو ما اتوقع ان يفضي لحلول تقوم علي المحاصصة السياسية في مرحلة من المراحل بما يؤدي عمليا الي تفكيك الدولة، وهو ما نجح في العراق بامتياز فمن الظاهر كافة مظاهر الديمقراطية تبدو حاضرة، لكنها لم تسفر عن رؤية وطنية مجمعة بل مجموعة احزاب إما هشة وغير مؤثرة وإما تستمد قوتها من نفوذها الطائفي، ومصر بما تعج به في هذه اللحظة من غياب للرؤيا وتغليب مصالح الجماعات الذاتية وانانية النخبة التي باتت تتصرف دون مسئولية مرشحة بامتياز للدخول في طور عراقي الطابع من انهيار الدولة المركزية وبداية التفتيت والتفكيك ليتعزز غيابها كدولة مؤثرة في الشرق الاوسط وتظل اسرائيل هي الكيان الوحيد الفاعل المتماسك. فلا يمكن فصل تفكك السودان وغياب العراق وتحديات المستقبل في ليبيا، عما تمر به مصر في هذه اللحظة التي تفرض علي الجماعة الوطنية ادارة عجلة التغيير في اتجاه واضح يسعي للاجابة عن سؤال واحد كيف نقود مصر نحو الافضل في خضم ما يحيط بنا اعادة رسم لخريطة الشرق الأوسط، وهو ما لن يحدث دون التعاون مع الجهة الوحيدة الباقية والقادرة علي المساعدة في العبور بنا الي بر الأمان. [email protected]