لا يخفي علي أحد عمق وخطورة الازمة التي تعاني منها مصر حاليا نتيجة سوء إدارة المرحلة الانتقالية من قبل المجلس العسكري وحكومة عصام شرف.. فقد مر علي قيام الثورة في 25 يناير أكثر من ثمانية أشهر ثبت للجميع خلالها وبعدها أننا لا نزال نتحرك في المكان ولم نتقدم خطوة واحدة الي الامام.. بل إن هناك من يعتقد أن سيناريو الفوضي الذي بشرنا به الرئيس المخلوع يتم كما يتمناه هو وكل أعداء الثورة .. ومع ذلك فإنني أخشي القول إنه بالرغم من خطورة وصعوبة الاوضاع الحالية فإنها أهون بما لا يقاس مما يمكن أن يحدث لهذا الوطن، لا قدر الله، حالَ استمرار حالة السيولة والارتباك والانفلات الامني المقصود والمتعمد وترك اعداء الثورة وعناصر الثورة المضادة طلقاء يكيلون الضربات القاتلة من كل اتجاه لكل خطوة أو فعل يستهدف تطهير البلاد من بقايا النظام البائد الذي جعل من مصر دولة فاشلة بامتياز.. بل إن المؤكد أن الامور ستنتهي بما يشبه الكارثة لو مضينا في طريق إجراء الانتخابات البرلمانية في ظل هذه الاوضاع الامنية المتردية للغاية.. إذ أن الفراغ الامني سيضع القوات المسلحة في موقف لا تحسد عليه لأنه سيكون عليها الانتشار في القري والنجوع والدخول في مواجهات مباشرة مع جيوش البلطجية وعصابات تزوير الانتخابات التي تربت في كنف جهاز امن الدولة والحزب الوطني المنحلين.. وإذا أضفنا الي كل ذلك العصبيات القبلية والعشائرية وعشرات آلاف قطع السلاح المسروقة من اقسام الشرطة المدمرة والمحروقة والتي وقع بعضها في أيدي سجناء خطر وسجناء هاربين، فإن توريط جيشنا الوطني أو الزج به في هذا المستنقع سيكون ضربا" من الجنون أو الانتحار القومي.. ولا يوجد مصري واحد يتمني لجيشنا الانشغال بأي شيء عن واجبه المقدس في حماية الحدود والامن القومي.. وأما عن تدهور الاوضاع الاقتصادية فحدث ولا حرج .. ولنا ان نتصور مدي الخراب الذي يمكن أن يحل بالاقتصاد إذا ظلت السياحة متوقفة والإنتاج معطلا والمستثمرون مترددين أو محجمين عن ضخ المزيد من الاستثمارات في مشروعات قائمة أو إنشاء مشروعات جديدة.. واستمرار نزيف الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة.. وقد تحدثتُ في مقالي السابق عن مخاوف أو شكوك تقترب من تخوم اليقين بوجود "خطة جهنمية مُحكمة لإجهاض الثورة".. تعتمد علي عدة محاور منها ترك النفلات الانفلات بلا كابح لإثارة الرعب في نفوس المواطنين، وإذكاء نار أسعار المواد الغذائية الاساسية حتي يكفر الشعب بالثورة وينقلب عليها ويظهر من يقول "فين أيامك يا مبارك"!!.. نحنُ إذا" أمام فشل ذريع في إدارة المرحلة الانتقالية مرده عدم الاعتراف بالشرعية الثورية والأخذ برأي مستشارين غير أكفاء أو من ذوي الهوي أفتوا بإجراء تعديلات محدودة علي دستور مرقع هي ذات التعديلات التي كان قد امر بها الرئيس المخلوع مضطرا في محاولة يائسة أخيرة لإنقاذ نظام حكمه.. ثم اختيار حكومة غير ثورية، أغلب أعضائها بمن فيهم رئيسها من رجال النظام البائد.. أضف الي ذلك أنها حكومة ضعيفة ومنزوعة الصلاحيات.. والحاصل الآن أن أحدا لا يشعر بوجود الثورة .. بل إن هناك من المحللين مَن يذهب الي أن ما جري في مصر لا يعدو أن يكون مجرد نقل للسلطة من رئيس مخلوع الي المجلس العسكري الذي نجح في امتصاص قوة الدفع الثوري وتحويل الثورة الي مجرد حركة اصلاحية تكتفي بتغيير رأس النظام مع الابقاء علي جسده ورجاله!!.. وإزاء هذا المشهد المرتبك الذي يخشي فيه أشد المتفائلين من ان تكون الثورة قد بدأت طريق الرجوع الي الخلف، خاصة أن أغلب الذين شاركوا في الثورة منذ البداية أو الذين التحقوا بالعربة الاخيرة من قطارها انشغلوا عنها بالفضائيات أو انصرفوا الي جمع الغنائم والبحث عن مصالح انانية، يصبح من الضروري العمل علي استعادة الوجه الثوري لمصر وفرض هيبة الدولة وإقناع العالم برغبتنا الجادة في المضي قدما في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة مما سيعيد السياح والمستثمرين .. وأري أن لكل هذه الاهداف عنوانا واحدا هو الدكتور محمد البرادعي.. وقبل أن ترتفع حواجب البعض بالدهشة أبادر بالقول إنني أعتقد أنه لا خلاف علي أن مصر تحتاج في هذه المرحلة الحرجة الي شخصية قيادية حازمة لها سابق خبرة معترف بها عالميا في حسن الادارة وتتمتع بالسمعة الطيبة والنزاهة الشخصية والاستقامة .. إنه البرادعي بلا ريب أو تردد .. أعرف أن إعلام نظام مبارك نجح في الإساءة كثيرا الي سمعة الرجل لدي الكثير من المواطنين البسطاء، وبعض النخبة للاسف الشديد، ولكن ثورة 25 يناير التي لا يمكن ذكرها إلا مقرونة باسم البرادعي، رغم كل تحفظات البعض وتحفظاتي انا ايضا" علي بعض اوجه أدائه وبعده عن الجماهير، ردت اعتبار الرجل مع رموز وطنية اخري رفع ثوار التحرير صورهم ورددوا قصائدهم واغانيهم مثل جمال عبد الناصر وامل دنقل والشيخ امام .. والحل الامثل لخروج مصر من المأزق الحالي وقيادة سفينتها الي بر الأمان يكمن في تشكيل حكومة إنقاذ وطني برئاسة البرادعي أو شخصية ثورية اخري مثل الدكتور عبد الجليل مصطفي أو الدكتور حسام عيسي، ومنحها صلاحيات كاملة لتنقلنا الي سلطة الحكومة المنتخبة مع وجود المجلس الاعلي حارسا لعملية الانتقال ولكن بلا سلطات.. نحن نحبُ جيشنا ونحترمه ولكننا لا نريد له أن يبقي طويلا في رخاوة المدن .. بل نريده أن يعود مكرما الي ثكناته لأن حدود الوطن تشتاق الي وجوده..