يختلف ترتيب الأولويات البيئية في الغرب عنها في العالم الثالث، فبينما يشكل ثقب الأوزون والتنوع البيولوجي أولوية أولي في الغرب، تشكل دورات المياه والذباب والنظافة أولوية أولي في العالم الثالث، مشكلة دورات المياه في مصر تعد أكبر المشكلات البيئية المزمنة والتي استعصت علي الحل، ويزعم البعض أن دورة المياه والصرف الصحي هما من أعظم الاختراعات في القرن العشرين، وهذا زعم خاطئ وينطوي علي مغالطة تاريخية كبيرة، فدورة المياه والصرف الصحي هما بالفعل من أعظم الاختراعات في تاريخ البشرية ( بعد العجلة والصفر والأرقام العربية والساعة والورق...الخ ) ولكنهما ليسا من اختراع الأوروبيين في القرن العشرين بل هما من اختراع قدماء المصريين منذ الدولة المصرية القديمة في الألف الرابعة قبل الميلاد. فقد خصص المصري القديم منذ الدولة القديمة حجرة خاصة بالمرحاض، وكسي جدرانها بالجير وحافظت مراحيض هذا العصر علي نظافتها. وصنع المصري القديم المراحيض من الحجر أو الفخار أو الخشب، وكان يجمع بين المرحاض والحمام في حجرة واحدة، تجاور حجرات النوم ولبعض المراحيض مقعد خشبي مهذب ويشبه كثيراً المقعد الحالي. ولقد كثر في السنوات الأخيرة الحديث عن الأوزون، ذلك الغاز السام الذي تعود معرفة الإنسان به إلي نهاية القرن الثامن عشر حينما لاحظ أحد الكيميائيين وهو »on Marum رائحة مميزة عند إمرار تيار كهربائي في غاز الأكسجين وذلك في عام 1785 م. وقد أعزي الكيمائي كريستيان شونباين ». F. Schounbein في عام 1840 م هذه الرائحة إلي تكون غاز جديد أطلق عليه اسم الأوزون، وهذا الاسم مشتق من الكلمة اللاتينية أوزو Ozo ومعناها « أشم رائحة »، وفي سنة 1846 م بين الكيميائي سوريت Soret أن الأوزون هو صورة من صور الأكسجين حيث يتكون الجزيء فيه من ثلاث ذرات من الأكسجين، والأوزون غاز ذو رائحة خانقة مميزة وتشبه رائحة السمك، ويوجد الأوزون في الهواء الجوي بنسبة جزء إلي مائة مليون جزء بالحجم تقريباً، وإذا زادت هذه النسبة إلي الضعف أصبح الهواء ساماً وخطيراً علي الإنسان والحيوان، ويستخدم الأوزون في تعقيم الأطعمة ومياه الشرب وتطهير دورات المياه العامة وذلك لأنه يقتل البكتريا، ويتكون الأوزون تلقائياً في الغلاف الجوي نتيجة التفريغ الكهربائي في طبقات الجو العليا، وكذلك تحت تأثير الأشعة فوق البنفسجية علي غاز الأكسجين، ويبلغ أقصي تركيز لغاز الأوزون عند ارتفاع نحو 25 كم في الهواء الجوي وهو ما يعرف » بطبقة الأوزون ». أما قرب سطح الأرض فإن الأوزون يتحلل بسرعة تحت تأثير ذرات الغبار وبعض ملوثات الهواء وبالتالي تقل نسبته كثيراً وتتكون كمية كبيرة من الأوزون علي شواطئ البحار. وتقوم طبقة الأوزون بحجب الأشعة فوق البنفسجية وتبديدها في الغلاف الجوي ومن ثم لا يصل منها إلي سطح الأرض إلا قدر ضئيل لا يؤثر علي الأحياء علي سطح الأرض تأثيراً يذكر ومعروف أن الأشعة فوق البنفسجية تسبب سرطان الجلد عند التعرض لها لفترة طويلة وتركيز كبير، وفي عام 1985 م وجد بعض الباحثين أن تركيز غاز الأوزون قد تناقص فوق المنطقة القطبية الجنوبية خلال الفترة من 1979 حتي 1985 بشكل واضح في أوائل أكتوبر من كل عام (وهو بداية الربيع في هذه المنطقة) وهو ما عرف فيما بعد (بثقب الأوزون) ولم يتفق العلماء علي تفسير هذه الظاهرة وهل هي بفعل النشاط الإنساني (ملوثات الهواء الجوي) أم لأسباب طبيعية، وهناك من يعزي ثقب الأوزون (إذا كان موجوداً) إلي تزايد الغازات الصناعية في الهواء الجوي، وأن ذلك سوف يؤدي إلي رفع درجة حرارة الهواء الجوي وذوبان الجليد في بالقطب الشمالي والجنوبي، وما يصاحب ذلك من مشكلات عالمية أهمها غرق المدن الساحلية في معظم القارات... الخ. ومن المؤكد أن الدول الصناعية قد لوثت البيئة العالمية (الهواء الجوي والبحار العالمية) ويريدون من الفقراء وهم العالم الثالث أن يدفعوا ثمن هذا التلوث، وهذا خطأ يجب ألا نقترفه، فنحن لا ناقة لنا ولا جمل في مسألة تلوث الهواء العالمي والبحار العالمية، وعلينا أن ننظف ونطهر بيئتنا الداخلية (بيتنا أولا) ونؤجل النظر في مشاكل الرفاهية. وإذا ألقينا نظرة سريعة إلي دورات المياه في كل المصالح الحكومية بلا استثناء والمساجد.. الخ والشوارع والميادين العامة (إذا كانت فيها دورات مياه) ومحطات السكة الحديد والقطارات وحتي المطارات والطائرات تجدها علي درجة كبيرة من القذارة والإهمال وكأنها إسطبلات مهملة، وتعد للأسف الشديد مثالاً صارخاً للتخلف وعدم الوعي والجهل... الخ ومظهر ونتيجة أيضاً للتخلف، وإحدي أولويات إصلاح البيئة إصلاح البيئة الداخلية وليس التنوع البيولوجي، وهذه دعوة إلي وزيرة البيئة ووزير الأوقاف ووزير الإتصالات... الخ وهو عمل دورات مياه ( آدمية ) نظيفة والحفاظ عليها في ربوع البلاد. نعود إلي الذباب، تلك الحشرة المؤذية، ذات الصفات الفريدة أبرزها الإصرار علي إصابة الهدف، وقد حاول المصري القديم أن يتخلص من أذي الذبابة، بأن ابتدع لها وصفة طبية طريفة مدونة في بردية ادوين سميث الطبية الفرعونية والتي يعود تاريخها إلي الألف الثانية قبل الميلاد (حوالي 1600 ق.م) ولا يهمنا في هذا المقام ما جاء حرفياً في هذه الوصفة الطبية الفرعونية - ولكنها تشير بالقطع إلي أن الذباب كان ولايزال مصدر قلق وأذي للمصري القديم والمعاصر. وبرغم الوصفة الطبية الفرعونية هذه، ومحاولات الحد من انتشار الذباب بالوسائل التقليدية البدائية المعرفة، فماتزال الذبابة تسرح وتمرح في ربوع البلاد، لا فرق بين مدينة وقرية، وربما كان للجو الدافئ الأثر الأكبر في توالد الذباب وانتشاره بالإضافة إلي أسلوب مكافحة المصري التقليدية للذباب بذبه أي بطرده أي بالحفاظ عليه - دون قصد. وقد تحدث كثير من الرحالة الذين زاروا الوطن العربي مع مطلع القرن الخامس عشر عن أشياء شاهدوها واندهشوا لها في الوطن العربي، كالفقر والعري والحفا والجهل والإيمان بالخرافات، وحظي الذباب بكتابات طريفة لبعض الرحالة ومنهم الرحالة وعالم الآثار الأمريكي وندل فيليبس في النصف الأول من القرن العشرين، والصورة التي رسمها ويندل فيلبس توجد نسخة منها في كل قرية وكل واد في كل أرجاء الوطن العربي تقريباً، بل وفي معظم أحياء المدن كبيرها وصغيرها وبخاصة في بداية فصل الربيع حيث يتوالد الذباب بصورة انفجارية - إذا صح هذا التعبير. وقد فشلت المقاومة الكيميائية للذباب، كما فشلت الوصفة الطبية الفرعونية في القضاء علي الذباب والتخلص من أذاها، ومن ثم يجب استحداث وسائل بيولوجية أو غيرها تفي بالهدف المنشود دون أن تلوث البيئة. • أستاذ الجيولوجيا بالجامعة البريطانية