ما أحلي الإجازات بعد العمل الشاق.. وها هي إجازة عيد الأضحي التي تأتي ربما لأول مرة منذ سنوات دون ارتباط عمل تنفيذي في الجريدة. أيام الإجازات دائما أحن لطرب الزمن الجميل أم كلثوم وعبد الحليم وقنديل ورشدي ونجاة.. والغريب أن كل، إن لم يكن أغلب النغمات التي تعجبني وتدغدغ مشاعري أكتشف أنها من ألحان ذلك العبقري القصير الراحل بليغ حمدي هذا الفنان التي تنبض ألحانه بحب الوطن وبشجن جميل لا تمتلك إلا أن تعيش وتتعايش معه بكل جوارحك. إبداعات كثيرة في كل ألوان الأغنية العاطفية والوطنية والاستعراضية أيضا لكن أتوقع كثيرا عند ألحانه الوطنية التي ألهبت مشاعر الشعب خلف أبطال جيشه البواسل في حرب السادس من أكتوبر 1973 عندما ذهب للإذاعة ظهر ذلك اليوم العظيم ومنعوه لأسباب أمنية لظروف الحرب لكنه جلس علي سلم الإذاعة وسلاحه العود والورق ليبدع أجمل ألحانه مثل بسم الله وعلي الربابة وغيرهما.. ولم يغادر الإذاعة حتي تبين النصر وأصبح واضحا أمام العالم أجمع. أتساءل: هذا الفنان الذي سبق عصره في شكل أغان تغني في أكبر مسارح باريس والعالم بأسره مثل التوبة وتخونوه لم ننجح حتي الآن في تخليد ذكراه في شكل فيلم سينمائي فأنا أعتبره مثل الكثيرين من النقاد ومؤرخي الموسيقي صاحب نقلة في الموسيقي الشرقية مثل الشيخ سيد درويش تماما.. فهو الرجل الذي جعل الشعب كله يغني من خلال جمل لحنية بالكورال وهو ما يسمي بالغناء الجماعي. إبداعات الطير المهاجر كما يسميه البعض أو مداح القمر كما يسميه البعض الآخر أو أنشودة الشجن لا تعد ولا تحصي ولكني أعتقد أن أجملها ما غناه في الغربة وأزمة وجوده خارج الوطن خاصة أغنية واحشتيني يا مصر من كلماته وألحانه. هذا الفنان الكبير المبدع يستحق أن تخلد ذكراه بفيلم سينمائي يحمل اسمه فهو علامة من علامات الموسيقي الشرقية وهو أبدع ملحني جيله علي الإطلاق.. وأتساءل لماذا تعثر مشروع فيلم بليغ حمدي حتي الآن فمعلوماتي أن الفكرة قديمة وكان مرشحا لبطولته الفنان الكبير الراحل ممدوح عبد العليم ثم تعثر وعادت المحاولة ورشح لبطولته الفنان الشاب محمد نجاتي لكن المشروع تعثر أيضا ثم عادت الفكرة لثالث مرة ورشح لبطولته الفنان إيهاب فهمي بحكم الشبه الكبير بينهما لكن المشروع لم يجد النور بعد.. بليغ حمدي أنشودة بها كل الدراما بما فيها من إبداع وحب بل وسقطات قادته ليعيش خارج وطنه الذي امتلك كل أعماقه ووجدانه وبالتالي فهو شخصية زاخرة بالأحداث بما يجعل فيلما عن حياته ناجحا تجاريا بجانب قيمته الفنية. أناشد صناع الدراما في بلدنا بإنصاف هذا الرجل فهو ليس أقل من راقصات صنعت لهن دراما تليفزيونية وسينمائية فهذا أبلغ تقدير لأبناء الوطن الموهوبين.. والتي كانت آخر رسائله من الغربة وحشتيني يا مصر أنا فداكي يا مصر: رغم البعد عنك.. عمري ما انسي انك أمي كلي حتة منك أنا زهرة من ولادك أنا منك من ترابك أنا شوق تايه في الغربة بيغني في انتصارك غنوة فيها بقولك وحشتيني يا مصر رغم البعد عنك لو قالي حد اسمك لو جابلي حد سيرتك بتملي عينيا صورتك أحضن برموشي ترابك وأنسي في الحلم غيابك رغم البعد عنك شايل والله همك عمري شموع تقيدلك وبروح روحي أضمك أنا شوق سهران ليلاتي ملهاش معني حياتي ولا طعم في ليل الغربة ولا صوت غير صوت آهاتي لما أسمعها بتقولك وحشتيني يا مصر ياسر رزق هكذا هي دائما دار أخبار اليوم تحتضن أبناءها مهما اختلفت الآراء وتعددت المشارب تجدهم جميعا في السراء والضراء علي قلب رجل واحد.. هذا ما تعلمناه من أساتذتنا ونحاول أن نغرسه نحن في زملائنا من الشباب فالحب أساس النجاح أو بالأدق الاستمرار في النجاح.. هذا المعني رأيته وضوح الشمس في فرحة الجميع بعودة الزميل ياسر رزق رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم من رحلة علاج خارج الوطن استمرت شهرا.. فرحة عارمة بعودة ياسر الإنسان قبل الزميل.. احتفاء بعودة ياسر الصحفي الناجح المخلص المجتهد قبل كونه رئيس مجلس الإدارة. عرفت ياسر منذ نحو ثلاثين عاما ونحن زملاء شباب نعمل مساعدين لأساتذتنا جلال عيسي رحمة الله عليه وجميل جورج أمده الله تعالي بالصحة والعافية.. شاب نابه في عينيه إصرار لا تخطئه العين أو الإحساس، دءوب يعمل في صمت كل شيء يطلب منه بإخلاص وتفان ودون النظر لأي مردود.. تنبأنا له جميعا بمستقبل باهر وها هو قد تحقق بدأبه وصبره واجتهاده وحبه وعشقه للدار التي يعمل بها. ياسر: حمدا لله علي سلامتك. حذاء عاطف صدقي في الحياة الصحفية لقطات غير مألوفة لا شك تستحق التسجيل فكلنا أو معظمنا غرست في ذهنه مقولة أستاذنا الراحل مصطفي أمين: إذا عض كلب رجلا فهذا ليس بخبر وإنما الخبر »إذا عض رجل كلبا». من هذا المنطلق تعتبر اللقطة غير المألوفة كنزا ثمينا للصحفي حتي إذا ما خالفت قواعد البروتوكول أو اللياقة لكنها في النهاية لقطة تهم الناس وتضيف إليهم شيئا كان غائبا. لاتزال تحضرني واقعة بل وقائع من هذا النوع غير المألوف أكتفي منها بلقطة للدكتور عاطف صدقي رئيس وزراء مصر الأسبق.. كانت قد ترددت شائعات عن تغيير وزاري مرتقب بسبب الظروف الصحية لرئيس الوزراء وكان هذا التصور علي غير الواقع الأمر الذي أراد الدكتور عاطف أن ينفيه بشكل عملي. كان ذلك في افتتاح سوق القاهرة الدولية حيث افتتحه رئيس الوزراء وأصر علي أن يتجول في المعرض لإحدي عشرة ساعة متواصلة ليثبت للرأي العام عمليا أنه يتمتع بصحة جيدة وليست هناك دواع صحية تستدعي تغيير الحكومة. أثناء الجولة تعب الجميع شبابا وشيوخا وتسرب الوزراء المرافقون لرئيس الوزراء من الركب واحدا تلو الآخر بادعاءات مختلفة بينما نحن الصحفيين لا نستطيع ذلك فهي مهمتنا وأي كلمة أو خبر يقوله رئيس الوزراء صراحة أو تلميحا سيحسب عليك وكان لزاما علينا استكمال الجولة بحلوها ومرها. فجأة خلال الجولة توقف رئيس الوزراء قليلا وارتكن علي أريكة خشبية في أرض المعارض المقام عليها السوق وخلع حذاءه طلبا للقليل من راحة القدم.. أومأت بعيني لزميلي المصور لأن يلتقط صورة لهذا المشهد النادر »رئيس الوزراء دون حذاء». لم يفهم زميلي الإشارة فجذبته وقلتها له صراحة »الحق خد اللقطة» لكنه رفض ورد بأنه من الأفضل أن ينتظر حتي يرتدي رئيس الوزراء حذاءه.. ودار شد وجذب بيني وبينه وعندما اقتنع بوجهة نظري كان رئيس الوزراء قد ارتدي حذاءه ولم يعد ينفع الندم. عدت للجريدة حزينا بائسا عن ضياع اللقطة التي كانت ستمثل انفرادا للجريدة بدلا من الصور التقليدية وخفف من روعي أستاذنا الراحل وجيه أبو ذكري مدير التحرير التنفيذي بعد أن كاد يسقط ضحكا واستغرابا لعمايل زميلنا رحمه الله تعالي رحمة واسعة. الكاركتر في حياتنا العملية نقابل ناس ونعرف ناس ونرتاح عن ناس من ناس مع الاعتذار للعندليب عبد الحليم حافظ.. لكن هناك شخصيات تسمي بالكاركتر الذي لا يتكرر وأذكر من هؤلاء وأنا صغير كان في القرية المجاورة لقريتنا شيخ مسجد يتندر الجميع بأحواله وأفعاله التي لا يمكن أن تصدر من أحد غيره. كان شابا كفيفا كفاه الله البصر لكنه أجزل عليه البصيرة كان نابها لأقصي حد.. كان يعرف القادم علي بعد أكثر من نصف كيلومتر من دبيب قدميه.. كان يجلس علي مصطبة أمام أحد بيوت القرية وبجواره أصدقاؤه ومريدوه ومحبو أحاديثه يحكي القصص المثيرة والتي لا تخلو من الفكاهة وفجأة يتوقف ويقول: أنظروا من الآتية.. فيبحلق المبصرون بعيونهم ولا يعرفون ويظل يكرر عليهم السؤال حتي يقولون: غلب حمارنا فيخبرهم باسم القادم أو القادمة.. والغريب أن كل ما يقوله صحيح مائة في المائة ولم يخطئ قط. كان الشيخ عيد - هذا هو اسمه - يكره كره العمي من يطلب منه أموالا لأي سبب كان وكان يعتبر من يطالبه بمال كالعدو الذي يريد قتله وكان يتخلص من المطالب عادة بأساليب لا تخلو من الفكاهة والذكاء. اتفق الشيخ عيد مع إخوته علي إعادة بناء منزلهم المتهالك والذي قارب علي السقوط علي أن يتقاسموا التكلفة.. بالفعل أحضروا كافة مستلزمات البناء من طوب ورمل وأسمنت وحديد وخلافه وعينوا لهذه المواد حارسا وطالبوه بأن يدفع نصيبه في أجرة الحارس.. وإذا به يغضب ويثور مثل الثور الهائج سألوه عن سبب ثورته فأجاب: لماذا تأتون بحارس وأنا موجود. فردوا عليه: وماذا كنت ستفعل فرد: أحرس أنا فأنا محترف في الحراسة.. وهنا أسقط بيد أخوته ولم يجرأوا علي مواجهته بأنه كفيف. حكاية أخري عن الشيخ عيد يحكيها أحد أبناء قريته عندما وقعت عركة بين عائلته وعائلة أخري في القرية وعركات القري عادة ما يستخدم فيها الشوم أي العصي الغليظة والحجارة.. تسابق أفراد عائلته من أخوته وأبناء أعمامه والمحبين لميدان المعركة فهي دائرة وحامية الوطيس. شاهد أهل القرية الشيخ عيد يجري ويسقط ثم ينهض متوجها لميدان المعركة.. يجري ويقع وينهض هكذا عدة مرات.. استوقفه أهل القرية وقالوا له إنها معركة وقد تصاب فيها لأنك كفيف فأجابهم بكل ثقة وإصرار: علي الأقل أشتم. ومن حكايات الشيخ عيد أيضا عندما انتشرت في قريتهم حوادث سرقة المواشي وإتلاف المزروعات وإشعال الحرائق عمدا فقرر أن يخصص خطبة الجمعة عن الموضوع ذاته لعلهم يرتجعون عن هذه الأعمال الإجرامية ويعيشون في حب وسلام.. تحدث كثيرا عن خطورة إيذاء الجار لجاره في منزله أو مواشيه أو زراعته واختتم خطبته مخاطبا أهالي القرية: يا أهل القرية تسممون المواشي وتغرقون الحقول وتشعلون الحرائق وتريدون أن تدخلوا الجنة.. آدي دقني أهه إذا شفتوها. دعاء: حفظ الله مصر ضد كل من استهدفها بسوء عن عمد أو دون عمد.. بحسن نية أو سوء نية أو ادعاء عشق لها يشقي أهلها.. آمين.