يوما بعد يوم تثبت الأحداث أن التيار الإسلامي في مصر، وحركة الإخوان المسلمين في قلبه، هو الأكثر حرصا علي الالتزام بقيم الحرية ومبادئ الديمقراطية، واحترام إرادة الشعب، والاحتكام إلي صناديق الانتخابات، وقبول الرأي الآخر. ويتأكد بالتالي أن كل ما كان يتهمه به خصومه في هذا الجانب، من العلمانيين واليساريين والليبراليين والمستبدين، هو محض كذب وافتراء وتضليل، مثلما تثبت الأحداث أيضا أن العلمانيين ومن شايعهم علي العكس، يرفضون العملية الديمقراطية، ولا يحترمون إرادة الشعب، ولا يقبلون الرأي الآخر، طالما أنه ليس في صالحهم! هي إذن ظاهرة غريبة ليست موجودة في أي دولة، أن تقف القوي الليبرالية والعلمانية ضد الديمقراطية، وترفض امتلاك الشعب المصري قراره لأول مرة في تاريخه، وتحاول فرض الوصاية عليه بكل وسيلة، وهذا هو السر في أن هؤلاء يخوضون في هذه الأيام معارك خاسرة، بعد أن تشدقوا كثيرا بما لا يؤمنون به ولا يعملون من أجله، وبعد أن احتموا طويلا بالسلطة الفاسدة المستبدة، واستفادوا منها في هذه الهيمنة الحالية علي أبواق الإعلام ومنافذ الثقافة ومنابر الأدب والفن. لقد فشلت معركة "الدستور أولا"، التي حاولوا فيها القفز علي إرادة الشعب، بعد أن أعلنها صريحة مدوية في استفتاء مارس الماضي، كما فشلت معركة "تأجيل الانتخابات البرلمانية" عاما أو عامين، التي حاولوا فيها استمرار حالة الفوضي، وترك البلاد تحت حكم استثنائي لفترة طويلة، وتأخير حلم المصريين جميعا في أن يكون لهم برلمانهم الحر المنتخب، وأخيرا معركة "المبادئ فوق الدستورية"، التي حاولوا فيها فرض الوصاية علي الأمة، والحجر علي قرارها وحقها وحريتها. والآن يفتعل دعاة العلمانية معركة أخري بالحديث عن "الدولة المدنية العلمانية"، التي يتقلص فيها دور الدين داخل جدران المسجد، ولا دخل له بشئون المجتمع والدولة، وهي معركة خاسرة بكل تأكيد، لأنها تجري في مواجهة العمق الديني للأمة، الذي عبرت عنه بوضوح ثورة يناير العظيمة، وبدأوا كذلك في إطلاق حملات التشكيك في نتائج الانتخابات المقبلة قبل أن تبدأ، بدعوي استخدام الدين للتأثير علي الناخبين، وهي مزاعم تخفي شعورا بحالة الفشل التي تعيشها تلك القوي. سوف يدرك دعاة اليسار والعلمانية والليبرالية في الانتخابات المقبلة، وهي أول انتخابات برلمانية حقيقية، يتطلع كل المصريين لأن تكون حرة ونزيهة، حجمهم الطبيعي ووزنهم الحقيقي، بعيدا عن الاحتماء بالسلطة والإعلام، وسوف يمنح الشعب المصري الواعي صوته لمن يعبر بصدق عن هويته وقضاياه، وسوف تمارس الأمة دورها في تزكية واختيار من يقودها عن جدارة واستحقاق، ومن يعرف قيمتها ومكانتها، ومن يبذل من وقته وفكره وجهده من أجل رفعتها وريادتها وتقدمها. ولكن هل يكف دعاة العلمانية، ومن سار علي دربهم، عن افتعال المعارك واختلاق الأزمات وإثارة المشكلات؟ وهل يبحثون في أسباب الفشل، الذي يلاحق مشروعهم الفكري ومنهجهم السياسي وقبولهم الجماهيري؟ وهل يفكرون في النزول إلي الميدان وطرح أفكارهم والاستماع إلي نبض الناس، بعيدا عن حضن السلطة وحماية الاستبداد واختطاف الإعلام؟ وهل يجربون القبول بالديمقراطية واحترام الرأي الآخر والمنافسة الحرة، فإن خسروا الجولة، فربما كسبوا احترام المنافسين! إن أجمل ما ينتظره الشعب المصري في الأيام المقبلة أن يشعر بحريته وكرامته، وأن يمارس حقه وسيادته، وأن يعبر عن نفسه وإرادته، وأن يختار من يمثله ويعبر عنه في كل المجالس الشعبية، وأن يصنع بالتالي حاضره ومستقبله بنفسه، وعندها سوف تبدأ مرحلة النهضة والتقدم والاستقرار، وسوف تأخذ مصر مكانها الطبيعي اللائق بها بين الأمم المتحضرة.