كحال كل الأشياء الجميلة.. الباقية في هذا العالم.. والتي قد يتآمر عليها المتآمرون لتقبيحها .. يصعقنا شعار الفضائيات العتيد.. في هذا الرمضان (مش هتقدر تغمض عينيك!).. فكل المسلسلات والأفلام لا تتناسل إلا علي عتبات هذا الشهر.. حتي صرنا لا نملك وقتاً نعود فيه إلي أنفسنا الجوانية.. ونخلو بها .. ونتصومع معها.. علنا نتطهر من أدران زمن أوغلَ في التردي إلي أقصاه!. سأغمض عيني رغماً عنهما .. وأعود إلي رمضان الطفولة الطازجة بالطرائف.. فأرانا نهب إلي المسجد كالحمائم.. مع أول خشخشة سماعة المأذنة المتحفزة للتكبير.. فنصلي جوار الكبار.. مفتعلين الوقار.. بعد أن يفسحوا لنا.. ويمسدوا علي رؤوسنا.. وهم الذين كانوا يطردوننا في الأيام الخوالي.. وها نحن بعد الصلاة نستمع إلي شيخ يزبد بالكلام ويطيل.. فيأخذنا النعاس والتناوم ولي الرقاب.. لتبدأ موجة الإنسحابات المتسللة حتي تفرغ قاعة مصلي النساء إلا من المتسولين!. أو أرانا نتوسل أمهاتنا بالدموع أن تيقظنا للسحور.. ونقسم أيماناً غليظة أننا سنصوم ولو لحد الظهر!.. ثم نقف قرب الشبابيك.. نكبر مع صوت المسحراتي العجوز.. إذ يجوب الشوارع ضارباً طبله مترنماً بالتهاليل.. ويطرق الأبواب ينادي علي كل بيت باسم صاحبه: يا نايم وحد الدايم ..رمضان كريم !!. سنغمض عيوننا المغناطيسية.. لنستعيد رائحة الغروب.. وكيف كنا نصعد أسطح البيوت.. نحث الشمس الزاحفة كسلحفاة علي المسير الأخير.. وننتظر بفارغ العطش والجوع صوت المؤذن طويل الروح.. وأراني طفلة تصوم بطريقة درجات الجامع.. حيث أمي تعلمني الصيام بالتدريج .. فاليوم الصوم للعاشرة صباحاً.. وغداً للظهر.. وبعدها لبعد الظهر.. ثم للعصر.. حتي أكبر.. وأكمل يومي لصوت المؤذن.. ! أعود لأحلامي الصغيرة في رمضان .. ليس هرباً من سعار الأسعار.. وإنما من ثقافة الإستهلاك الغبية التي تجتاحنا هذه الأيام.. أعود للطفولة لأننا أفرغنا هذا الرمضان من معانيه .. وحولناه إلي مطبخ متخم بأنواع الطعام.. وتهافتنا إلي القشور.. ولم ندرك ما رمضان الحقيقي.. وما فحواه .. وأبسط صورة أن الصحون اللاقطة علي أسطح بيوتنا .. حلت مكان الصحون التي كان يتبادلها الجيران والأهل.. فيما بينهم تعاطفاً ومحبة.. وليس هذا فحسب.. بل حولتنا هذه الصحون اللاقطة لكل الفضائيات إلي جزر معزولة لا نعرف بعضنا أو نتزاور أو نتراحم.. فمن قزّم رمضان فينا؟!!. أهلاً برمضان الذي ما زال في داخلنا كبيراً!!.