عند من يرفعون كتاب الله علي أسنة رماح الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي تكون المناورة وعدم الوفاء بالوعد مكرا، ولكنه مكر خير أي يستهدف الخير والمصلحة. وتكون الخديعة وإيهام الآخرين بما ليس حقيقيا فنا من فنون الحرب، إذ الحرب خدعة، وتكون كل مخالفة لمنظومة القيم العليا التي أقرها الوجدان الإنساني عبر مسيرته منذ انتظم الإنسان في مجتمعات بشرية وقبل الأديان السماوية ومعها وبعد تمامها، مخالفة تندرج تحت قاعدة أساسية هي أن الضرورات تبيح المحظورات! ولقد كانت الفتنة الكبري عند صدر الإسلام نموذجا لتلك الصورة التي تجلت فيها اجتهادات الذين سفكوا دماء المسلمين وشقوا صفهم ودمروا وحدتهم واستباحوا كل شيء، ابتداء من آل بيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم وليس انتهاء بالكعبة ذاتها عندما ضربوها بالمنجنيق، وكانت لهم سابقة رفع المصاحف علي أسنة الرماح، بهدف شق الصفوف من وراء الإمام الجليل عليّ بن أبي طالب، كرم الله وجهه! إنها سلالة مستمرة في التناسل الذهني والمذهبي حتي هذه اللحظة وإلي أن تقوم الساعة، وكان من حظي وحظ غيري الحسن أو السيئ أن عاصرنا وعايشنا وتفاعلنا مع هذه السلالة، خاصة في العمل النقابي الطلابي والمهني، وما زلت وغيري نتذكر انتخابات الاتحادات الطلابية مطلع السبعينيات، بعدما أطلق السادات عفريت الجماعات إياها من علبته، ولعب أشرف مروان ومحمد توفيق عويضة ومحمد عثمان إسماعيل وعثمان أحمد عثمان دورا خطيرا في التمويل والتنظيم والتسليح بالجنازير والمطاوي والأموال، وكان الهدف هو مواجهة المد الوطني الناصري واليساري وأيضا الليبرالي الذي كان قد ائتلف علي أرضية مشتركة، قاسمها المشترك الأعظم هو تحرير التراب الوطني وبناء مجتمع ديمقراطي تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية، وحيث جاءت مظاهرات 1972 ذروة لهذا المد الوطني. ثم جاءت انتخابات النقابات لتترسخ معالم طريق ما قد نسميه بالبراجماتية السياسية، أي النفعية السياسية الخالصة، لجماعات التيار السياسي الرافع للافتة الإسلامية، وعرفت النقابات مواجهة بالشعارات الساخنة بين الدين وبين الاتجاهات السياسية، وسمعنا صراخا يهدر "إسلامية إسلامية.. لا ناصرية ولا ليبرالية ولا شيوعية" أو "إسلامية إسلامية.. لا شرقية ولا غربية"، وكأن الإسلام ينفي أن يكون للمرء أفكار وضعية في الاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها! عرفت النقابات علي يد جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتها حركتهم الأم "الإخوان المسلمين" تقسيمات رأسية وأفقية علي أسس تقحم العقائد الدينية في الأمر، وتحولت النقابات علي أيديهم إلي غطاء يستر تنظيماتهم السياسية وورقة يساومون بها في صفقاتهم مع النظام الحاكم وبقية القوي التي يخشون قوتها.. ثم كانت النتائج الوخيمة في الحياة النقابية، وأول هذه النتائج وأفدحها هو استبعاد الآخر وتهميشه، وتكريس الاستبداد الذي كان يولد منه وعنه الإفساد والفساد في أحيان كثيرة لذلك كله، ولأن انتخابات واحدة من أكبر وأعرق النقابات المهنية في مصر، وهي نقابة المهندسين، علي وشك أن تبدأ فإن الضمير الوطني والوعي النقابي ودروس الزمن تحتم كلها عدم ابتلاع طعم خلط الشعارات الدينية بالعمل العام، ولكي يبقي للدين قدسيته وسموه ومكانته في ضمير الإنسان ووجدانه وترجمته في سلوكه بغير صياح وصراخ يضع العقيدة الدينية في خدمة النفعية الرخيصة.