العمال يهربون لقيادته بحثا عن العائد المادي السريع أصحاب الورش : نعمل ب 10% من العمالة والشباب لا يرغب في التعلم »جمال» ترك ورشة اللحام بعد 15 عاماً..و»إمام» يهرب به من ضغوط العمل حرف يدوية اشتهرت بها مصر لعقود طويلة حتي أصبح العامل المصري من أمهر الحرفيين وملأت الصناعات الحرفية أروقة المعارض بمختلف الدول الأوروبية والآسيوية... ورش تدريبية بمنح كاملة استضافت الآلاف من الشباب ليكونوا خلفاً لأقدم الحرفيين المصريين ، كان هذا هو حال العديد من الصناعات والحرف لكن خلال الآونة الأخيرة لم يعد الحال كما كان ، فقد أغلقت معظم الورش أبوابها وهربت العمالة بحثا عن بدائل تحقق ربحا أعلي.. واحد من أهم الأسباب الرئيسية لتدهور الحال كان »التوك توك» الذي جذب الشباب خارج الورش المختلفة حتي أصبحت تعمل بأقل من 10% من طاقاتها فتراجع نشاط الحرف وصارت تبحث- بلاجدوي- عن عمال! بالرغم من أن الحديث عن انتشار »التوك توك» في مصر دائما ما كان يأخذ طابعا أمنيا يركز علي ما تسببه هذه المركبة الصغيرة من فوضي مرورية ، فضلا عن استخدامها لتنفيذ بعض الأنشطة الإجرامية ، حتي انتشرت كالفيروس ، متخفيا تحت شعارات توفير فرص العمل وعلاج تقصير الحكومة في ربط المناطق العشوائية بالمواصلات العامة ، إلا أن الكثيرين لم ينتبهوا لتهديده لواحدة من أهم مصادرالنشاط الاقتصادي ، وهي الصناعات الحرفية وبالتالي تأثيره علي مستقبل الاقتصاد المصري ، وهو ما كشفته جولة قامت بها »الأخبار» في منطقة الأزهر والحسين ، حيث توجد عشرات الورش العاملة في مجال الصناعات الحرفية ، والتي باتت تبحث عن عمالة تنقل لها »سر الصنعة» ، بعد أن هجرتها الأيدي العاملة وفضلت »التوك توك». ومن داخل محله الذي لا يتجاوز العشرة امتار استقبلنا الحاج أحمد أبو جبل من أقدم صناع »الصدف» ومنتجاتها ، وصاحب عدة ورش بالجمالية والتي ورثها عن آبائه واجداده ، تحدث معنا عن الحال الذي وصلت إليه هذه الصناعات بعد أن كانت من أكثر الصناعات تصديرا للخارج ومن أكثرها إقبالا داخليا قائلاً » كانت كل هذه المهن والحرف قديما جاذبة للعمالة فتمتلئ الورش بالصناع والعمال حتي يصل عددهم ل50 عاملا داخل الورشة الواحدة ، وكانت الأسر ترسل ابناءها صغارا ليتعلموا المهنة ويتقنوها قبل بلوغ سن الشباب ، أما الآن فلم تعد هذه الثقافة موجودة واصبحت تقتصر علي أبناء أصحاب الورش فقط والذين تربوا وسطها ونمت لديهم حب »الصنعة». يومية للسجاير وأوضح أبو جبل أن من أبرز أسباب عزوف الشباب عن العمل داخل الورش هي رغبتهم في تحقيق ربح وفير بشكل سريع لتغطية متطلباتهم اليومية خاصة السجائر قائلاً » الشاب الآن يدخن نحو عبوتين يومياً أي 50 جنيها في المتوسط وهو نفس ثمن اليومية للعامل المبتدئ ومن هنا فلا يدر عليه العمل أي دخل ، بعكس العمل علي »التوك توك» والذي يوفر لصاحبه أضعاف ذلك المبلغ بشكل يومي وبطريقة سريعة خاصة وان اجراءات شراء توك توك اصبحت يسيرة وقطع الغيار متوافرة بشكل كبير. وبنظرة مليئة بالأسي أشار لنا الحاج ابو جبل علي محله قائلاً »أغلقت احدي الورش الخاصة بي والآن أفكر بشكل كبير في إغلاق محلي مثلي مثل بقية زملائي في الجمالية فالورش الآن إما مغلقة أو حولت نشاطها لسوبر ماركت ، ولولا أن لدي زبائن مخلصين منذ سنوات طويلة يطلبون مني بعض القطع في مناسبات معينة ، لم أكن لاتمكن من العمل حتي الآن». دورات تدريبية ويؤكد ابو الجبل ان ثقافة الشباب تغيرت الآن والنظرة للحرف اليدوية لم تعد كالسابق ، فقديما كان الشباب يتهافت علي الدورات التدريبية التي تعلمهم مثل هذه الحرف ، موضحا أنه كان يحاضر داخل هذه الورش التابعة للاتحاد المصري للورش السياحية ووزارة السياحة بتمويل علي هيئة منح ، فكان الطلاب ينتظمون في الورش لمدة 15 يوماً مقابل الحصول علي 300 جنيه. اندثار الحرف أما محمد جمال ، أحد العاملين بورشة تشكيل معادن منذ 15 عاماً فيوضح لنا ان هناك بعض المهن داخل الورش اختفت تماما نظرا لرفض العمالة التخصص فيها بعد رفضهم للأجر الخاص بها ومنها »المنشار اليدوي» ، مضيفاً ان الورشة قديما كانت تمتلئ في الصيف بالصنايعية إلا أن الآن العمل يسير بنحو 6 فقط منهم ومعظمهم من القدامي ممن لديهم خبرة في صناعات الصاج والنحاس والاستالس. ويؤكد جمال ان التوك توك استطاع ابهار الشباب بما يدره من دخل سريع بشكل يومي ، حتي أصبح الشباب يشتركون معا في شراء توك توك واحد والعمل عليه معاً بنظام الورديات ، وبالرغم من اكتسابهم لدخل مادي إلا انهم افتقدوا اخلاق الصانع المصري والتي يتعلمها الشباب داخل الورش المصرية الأصيلة. ثقافة التعلم ومن ورشة »مخارط جمع» أشار الحاج علي سعد أن الشباب يفتقدون ثقافة التعلم ، فلم تعد لديهم الرغبة إلي الصبر لتعلم مهنة جيدة يستطيع الاعتماد عليها مستقبلاً فبناء أسرة سريعا وتحقيق حلم الزواج أصبح يضغط علي كل بيت مصري حتي اضطر الشباب إلي العمل بأي مهنة تدر عليهم دخلا سريعاً. وعقب انهائنا للجولة داخل الورش نزلنا إلي عدد من المواقف الشعبية للتحدث مع سائقي التوك توك للتعرف علي أسباب تفضيلهم له علي غيره من المهن الاخري. »توك توك» بالتقسيط لم يتجاوز عمره ال 22عاماً إلا انه بدأ رحلة العمل منذ أكثر من 5 سنوات كعامل متنقل بين المحال والورش حتي استقر به الأمر داخل »فرن بلدي» وبالرغم من استقراره في العمل لأكثر من سنة قرر تركه ليبدأ في البحث عن وسيلة لشراء توك توك خاص به للعمل عليه ، وهنا يقول بدر إمام : » حصلت علي دبلوم تجارة وبعدها بدأت في البحث عن عمل وتنقلت بين الكثير من المهن المختلفة إلا أنني لم أتحمل تحكم وعنف اصحاب العمل ، كما أن اليومية لا تكفي احتياجاتي البسيطة ناهيك عن رغبتي في الحصول علي شقة للتمهيد للزواج ومن هنا قررت تكوين مبلغ من المال لدفعه كمقدمة لشراء توك توك بالتقسيط ليكون ملكاً لي بدلاً من العمل مرة أخري تحت رحمة صاحب التوك توك». وأشار إمام إلي أن تكلفة التوك توك آنذاك كانت 34600 جنيه للكاش ، و50 ألفا للقسط منها 15 ألفا كمقدمة ، وأنه بدأ في الاهتمام بالعمل وتجنب المشاكل مع أصحاب التكاتك الأخري وبالفعل يتمكن الآن من توفير نحو 150 جنيها يوميا يخصم منها مبلغ للقسط والبقية للمصاريف الشخصية وللجمعيات التي قرر الاشتراك بها لتكوين نفسه. وأوضح إمام إلي ان التوك توك بالفعل جذب العديد من الشباب بعيدا عن الورش خاصة الصناعات اليدوية ولعل الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد وبعد الاهالي عن شراء هذه المنتجات جعلت الامر غير مجد ولا مستقبل له ، فبحث الجميع عن مصدر دخل سريع. راحة بدنية أما جمال أحمد ، 40 عاما صاحب وسائق توك توك ، ترك العمل بورشة تصنيع ولحام بعد ان قضي بها أكثر من 15 عاماً مبرراً ذلك بأن العمل داخل الورش خاصة التي تتطلب أعمال اللحام والصب مرهقة بشكل كبير وأنه عاني من آلام الظهر بسبب الوقوف داخل الورشة لأكثر من 8 ساعات ، وأضاف قائلاً » لدي 5 أولاد وبعد العمل بجهد داخل الورش اكتشفت ضعف بدني ونصحني الطبيب بالبعد عن العمل المجهد وهنا فكرت في اقتناء توك توك فهو الأكثر راحة وبالرغم من الجلوس فترة طويلة إلا أنني اركنه كل عدة ساعات واجلس علي المقهي ، كما أن ضعف رؤيتي ليلاً تجعلني أنهي العمل مع المغرب مباشرة ». وعند سؤاله عن اعتماده علي التوك توك كمصدر رئيسي للدخل أوضح قائلاً » الحمد لله التوك توك مربح جدا وفي اليوم الواحد ممكن في المتوسط يدخلي حوالي 100 جنيه يعني 3 الاف جنيه شهرياً ودا أكبر من مرتب موظف ، لكن طبعاً » بتحصلنا مشاكل كتير بسبب ان التوك توك حتي الآن غير مرخص ، ودا لوحده ساعات بيجبرنا ندفع مبالغ كبيرة لو نزلت علينا حملة أو اضطرينا نخرج لشارع عمومي في ظرف طارئ لكن في العموم هو أفضل من العمل في أي حرفة تانية خصوصا لو يدوية ». نظرة المجتمع وبالرغم من امتلاكه لتوك توك منذ 4 سنوات إلا ان محمد علي 24 عاماً يؤكد أن العمل داخل الورش له ميزة كبيرة لا تنطبق علي سائقي التوك توك وهي نظرة المجتمع قائلاً » الجميع ينظر للصنايعي وللحرفي علي أنه شاب يشقي ويكد ويعمل لأكثر من 10 ساعات لمعاونة اهله أو لفتح بيته إلا أنهم في الوقت نفسه ينظرون لسائق التوك توك علي انه مجرد شاب »صايع» مدخن بل يتناول المخدرات ويصل الأمر في كثير من الأحيان باتهامنا باننا سوابق ، واصبحنا فجأة السبب في كل مشاكل العشوائيات». وفي الجانب الآخر أكد علي أن »التوك توك» كان فتحة خير للكثير من الشباب فالعمل داخل ورشة خاصة للحرف اليدوية يتطلب التدريب عليها لأكثر من 3 أشهر لاتقانها وطوال هذه المدة لن يكون الدخل جيدا كما انه ليرتقي الصنايعي ويصبح »أوسطي» يتطلب ذلك سنوات طويلة من العمل ولامتلاك ورشة خاصة تعني الإنتظار ايضا لاكثر من عشر سنوات ، وبدلا من كل ذلك فالعمل علي التوك توك يدر دخلا وفيرا من الشهر الأول ويجعل السائق رب عمل اذا كان التوك توك خاص به. خبرات جديدة يؤكد المهندس ابراهيم يحيي ، الرئيس السابق لقطاع الصناعات التراثية بوزارة الصناعة ، أن الفترة الحالية تحتاج إلي تسليط الضوء علي مثل هذه الصناعات الحرفية فهي تمثل قطاعاً صناعياً مهماً ، موضحاً أنها تواجهه الإنقراض بالفعل وذلك نتيجة هروب العاملين منها بعد غياب العائد المادي والخبرات الإدارية والفنية اللازمة لذا علي الحكومة البدء في مدها بالخبرات الجديدة والعمل علي استخدام العلوم التكنولوجية المتطورة ، مع البدء في إزالة العقبات التي تواجه الصناع وتوفير الخامات اللازمة لمستلزمات الإنتاج. وأوضح يحيي أن هذه الصناعات تشكل تراثاً شعبياً من شأنه توفير واستيعاب قدركبير من العمالة والحل علي أزمة البطالة وذلك لن يتحقق إلا بعد وضع حلول للأزمات التي تمر بها لتتمكن من إعادة جذب الشباب وتحقيق التنافسية. إدخال الآلية أما الخبير الاقتصادي إيهاب الدسوقي فيؤكد أن الصناعات والحرف اليدوية التي تتميز بها مصر والمتوارثة منذ الاف السنوات تحتاج بشكل جدي إلي عملية إدخال الآلية ، نظراً إلي أن أكثر ما يجعل هذه المهن صعبة بالنسبة للشباب هي الجهد الكبير المبذول فيها لاعتمادها بشكل كبير علي المجهود البدني والعمل اليدوي بجانب آلات بسيطة ، إذا فالحل الآن هو تزويدها بنظام آلي حديث ومتطور يستطيع مواكبة التطور التكنولوجي ، ويشير الدسوقي إلي أن ضعف إمكانيات العمالة داخل الورش المصرية وافتقارها للتدريب جعل من السهل تدمير هذه الصناعات وهو العملية التي تتم بشكل ممنهج منذ اكثر من 40 عاماً.