شعرت بالغيرة في باريس!.. كان ذلك يوم الخميس الماضي الرابع عشر من يوليو، وهو العيد الوطني لفرنسا.. في هذا اليوم احتشدت قوات رمزية للجيش الفرنسي ابتداء من قوس النصر، ومرورا بشارع الشانزليه إلي ميدان الكونكورد الشهير الذي تزينه مسلة مصرية فرعونية.. وفي خاتمة قوات العرض العسكري كانت هناك بعض العربات التي تمثل الشرطة الفرنسية.. واثناء مرورها كانت تتلقي تصفيقا من الفرنسيين الذين تجمعوا لمتابعة هذا العرض العسكري السنوي، وذلك تعبيرا عن احترام وتقدير تحظي به هذه الشرطة من بني وطنها. وانعشت هذه الغيرة أمالي في ان يكون لنا مثل فرنسا وغيرها من الدول الاوروبية جهاز للشرطة يحظي بالاحترام والتقدير من كل المصريين، حتي وان كان يتسم بالحزم، مثلما ظهر ذلك خلال اضطرابات ضواحي باريس حينما كان ساركوزي وزيرا للداخلية، أو مثلما ظهر ذلك خلال الاجتماعات النقابية علي تمديد سن الاحالة للمعاش سنتين وساركوزي رئيسا للجمهورية! لكن حتي يتحقق ذلك فنحن نحتاج لمسيرة طويلة، وليس لمجرد خطوات تتمثل في انهاء خدمة نصف القيادات الكبيرة في جهاز شرطتنا أو حتي وقف بعض القيادات الاخري عن العمل مثلما يطالب البعض الآن، أو ايضا تقديم جهاز الشرطة اعتذارا عن تجاوزات واخطاء وخطايا عديدة ارتكبها اعضاء ينتسبون اليه ليس خلال ثورة 52 يناير فقط وانما خلال سنوات طويلة.. وهذه المسيرة الطويلة تحتاج لمهمتين اساسيتين.. الاولي إعادة تأهيل جهاز الشرطة كله ليحقق بالفعل عمليا شعاره الجديد »الشرطة في خدمة الشعب«.. والتأهيل يتعين ان يشمل الجميع في جهاز الشرطة.. قيادات عليا ووسيط.. وضباطا صغارا وامناء شرطة.. وافرادا أيضا.. فنحن لن نحترم ونقدر الشرطة إلا اذا احترمتنا الشرطة اولا.. أو بالاصح احترمت آدميتنا وحقوقنا.. واقتنعت ان مهمتها الاولي هي توفير الامن لنا.. وقتها لن نرفض حزمها وحتي صرامتها وسوف نصفق لها مثلما يصفق الفرنسيون لجهاز شرطتهم التي تحترم حقوقهم بما فيها الحقوق غير المدرجة في ميثاق حقوق الانسان مثل حق التسول الذي يمارسه عديدون باشكال مختلفة في اشهر شوارع باريس »الشانزليه« ناهيك بالطبع عن حقوق الباعة الجائلين! اما المهمة الثانية الضرورية لخلق جهاز شرطة لدينا يحظي بالاحترام والتقدير من قبل المواطنين فهي تتمثل في تغيير علاقة جهاز الشرطة بالنظام السياسي أو بالحاكم.. وهذا يقتضي ان نركز الآن جل جهودنا علي بناء هذا النظام السياسي الجديد، بعد ان اسقطنا النظام السابق، وذلك بخصائصه الجديدة التي نريدها وبات يتوافق عليها جميع المصريين.. ليكون نظاما ديمقراطيا.. وغير تسلطي وديكتاتوري.. نظام يعتمد علي صندوق الانتخابات في اكتساب شرعيته واستمراره، لا علي اجهزة الأمن.. بينما يقتصر دور جهاز الأمن علي تحقيق الأمن لكل المواطنين لا أمن الحكام فقط.. يحقق ذلك سواء لجأ اليه المواطنون أو لم يلجأوا.. ومن يلجأ يجب ان يلقي الترحيب والاحترام لا الاهمال وربما الاهانة أحيانا. ولعل هذا ما يستأثر باهتمام من يراقبون في الخارج عن كثب ما يحدث في داخل بلادنا ومن بينهم الفرنسيون.. وهذا ما لاحظته خلال زيارتي للعاصمة الفرنسية، والتي حاولت خلالها استثمار فرصة النظر لما يحدث في بلادي من الخارج لتكمل نظرتي اليها من الداخل، وهذا ما تعلمته من اساتذتي في علم السياسة. ورغم تراجع اخبار مصر في الاعلام الفرنسي إلي مرتبة متأخرة نسبيا فقد لاحظت من خلال نقاشات شتي ان ثمة قلقا اوروبيا بصفة عامة وفرنسيا بصفة خاصة، علي الوضع في مصر.. وسبب القلق تلك المصالح الاقتصادية وغير الاقتصادية للاوروبيين في مصر والمنطقة كلها، وايضا الرغبة في نجاح تجربة ما اصطلح الاوروبيون علي تسميته بالربيع العربي الديمقراطي خاصة وانهم يراهنون علي أن نجاح الديمقراطية في مصر سيكون بمثابة قاطرة لقطار الديمقراطية في العديد من دول المنطقة. هم يخشون ألا يسير قطار الديمقراطية في مصر ليصل إلي المحطة الاخيرة بشكل منتظم وان تعطله فوضي أو اضطرابات أو احتجاجات مستمرة.. ويراهنون علي قدرة المجلس الاعلي للقوات المسلحة علي ادارة المرحلة الانتقالية الحالية لاقامة النظام السياسي الجديد بحزم ممزوج بالحكمة.. هكذا بالامرين معا.. ولعل هذا يتناقض مع ما ردده البعض حول وجود ضغوط اجنبية تستهدف بقاء المجلس الاعلي للقوات المسلحة في ادارة شئون البلاد وتأجيل الانتخابات وبالتالي تسليم الحكم إلي سلطة مدنية يختارها الشعب، وهو التأجيل الذي يرفضه المجلس بشدة وحسم.. غير ان مصدر القلق الاساسي لدي الاوروبيين بصفة عامة والفرنسيين بصفة خاصة يتمثل في انهم يرون ان انصار الدولة الديمقراطية المدنية يبددون جهودهم ووقتهم في الاعلام ولم ينخرطوا حتي الان رغم مرور خمسة اشهر علي سقوط نظام مبارك في عمل سياسي وجماهيري لاغني عنه لانه من خلاله وحده سوف يتم تشكيل ملامح وسمات وخصائص النظام السياسي الجديد.. ففي الوقت الذي انهمك فيه الاخوان وقوي وتيارات دينية مختلفة في العمل بين الناس لم يخرج انصار الدولة المدنية من أسر النخبة حتي الآن. الاوروبيون يرون انه اذا كانت المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات مهمة، فان الاكثر اهمية منها هو النزول للناس في القري والنجوع والاحياء الشعبية والمناطق العشوائية لكسب تأييد الناخبين.. لان هؤلاء الناخبين هم الذين سيختارون الرئيس القادم وسيحددون شكل تركيبة الحكومة الجديدة في مصر.. وبالتالي هم الذين سيتحكمون في توجهات النظام السياسي الجديد وطبيعته.. ولذلك علي من ينشدون دولة ديمقراطية مدنية ان يركزوا في هذا العمل الجماهيري والسياسي.. أو العمل في وسط الناخبين مثلما يفعل غيرهم من انصار الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية ابتداء من نشر القوافل الطبية، وانتهاء بالشنط الرمضانية مرورا بحماية لجان الثانوية العامة.. ولعل هذا ما نبه اليه مبكرا ممثل الاتحاد الاوروبي في مصر عندما طالب انصار الدولة المدنية بالكف عن الشكوي من قوة غيرهم والانتقال من احتجاجات الميادين إلي العمل الجماهيري الاوسع والارحب والاكثر تأثيرا في صياغة المستقبل السياسي لمصر، ومستقبل الديمقراطية فيها.