الرئيس السيسي يوجه رسالة للمصريين بشأن ارتفاع الأسعار    مصدر حكومي يعلن تفاصيل التعديل الوزاري وحركة المحافظين وموعد حلف اليمين    أمين سر "دفاع النواب" : ثورة 30 يونيو أنقذت مصر من الفوضى    المالية: مصر تتصدر الدول العربية ب 32مشروعًا للهيدروجين الأخضر    تباين أسعار العملات الأجنبية في بداية تعاملات الأحد 30 يونيو 2024    أسعار الخضراوات اليوم 30 يونيو في سوق العبور    مسئولو «الإسكان» يتابعون موقف تنفيذ وحدات «سكن لكل المصريين» بمدينة العاشر من رمضان    مدبولي: مصر نجحت في اتخاذ العديد من الإجراءات الإصلاحية وأبرزها استقرار سعر الصرف    ثورة 30 يونيو.. كيف حققت الدولة التمكين الاجتماعى للمرأة    انطلاق الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا    ملخص وأهداف مباراة الأرجنتين ضد بيرو 2-0 فى كوبا أمريكا    رئيس الوزراء: الدولة المصرية تمثل قيمة مضافة لأي مستثمر    هيئة بريطانية تتلقى بلاغاً عن حادث قرب ميناء المخا اليمنى    موريتانيا: الرئيس محمد ولد الغزواني يحصل على 54.87% من الأصوات بعد فرز 50.32% من صناديق الاقتراع    الاحتلال الإسرائيلى يواصل اقتحاماته بالضفة ويمطر نابلس بقنابل الغاز    أبو الغيط يكشف صفحات مخفية في حياة الرئيس الراحل مبارك وتوريث الحكم وانقلاب واشنطن عليه    يورو 2024| تشكيل إنجلترا المتوقع لمباراة سلوفاكيا في دور ال16    ياسر حمد يكشف أسباب رحيله عن الزمالك ..ويشيد بالأهلي وبيراميدز    الأهلي يختتم تدريباته اليوم استعدادا لمواجهة طلائع الجيش بالدوري الممتاز    حالة الطقس المتوقعة غدًا الإثنين 1 يوليو| إنفوجراف    "ظهرت الآن".. رابط نتائج البكالوريا 2024 سوريا حسب الاسم والرقم moed.gov.sy وزارة التربية السورية    ثورة 30 يونيو|النقيب محمد الحبشي.. نال الشهادة قبل ولادة ابنه الوحيد بشهر    إحباط تهريب 1.5 طن دقيق مدعم ب3 مخابز بلدية.. ومصادرة 200 علبة سجائر مجهولة المصدر بالإسكندرية    تفاصيل الحالة المرورية بمحافظات القاهرة الكبرى تزامنا مع ذكرى 30 يونيو    ميتا تبدأ اختبار برامج المحادثة الآلية التي يطورها المستخدمون عبر استديو ميتا أيه آي على إنستجرام    اليوم..مصطفى حجاج يحيي حفلًا غنائيًا لأول مرة في هولندا (تفاصيل)    محمد رمضان يكشف عن عمل سينمائي جديد مع سعد لمجرد    قناة MBC مصر تحصد 4 جوائز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون    وزيرة الثقافة الأردنية تفتتح الدورة 19 لمهرجان المسرح الحر | صور    دار الإفتاء تستعدُّ لمؤتمرها العالمي التاسع بمشاركة أكثر من 100 دولة    «الإفتاء» توضح حكم الدين في الرقية الشرعية: «اللهم أذهب البأس»    «الرعاية الصحية» تعرض إنجازات «التأمين الطبي الشامل»: علاج 44 مليون مواطن    التعليم تكشف عقوبة المتورطين في الغش بامتحاني الفيزياء والتاريخ    «زي النهارده».. ثورة 30 يونيو تطيح بحكم الإخوان 30 يونيو 2013    مدحت صالح يطرب جمهور الأوبرا بأروع أغانيه على المسرح الكبير    إعادة ضخ المياه إلى منطقة الدقى وإستئناف تسيير حركة السيارات (تفاصيل)    ياسر أيوب: اتحاد الكرة يعاني من تهديد الأهلي والزمالك في قرارات الانسحاب    خاص.. بيراميدز: ما حدث في مباراة سموحة إهمال واضح من صاحب الأرض وننتظر قرار الرابطة النهائي    هل يجوز التهنئة برأس السنة الهجرية.. الإفتاء توضح    سالم: تم اختزال مطالب الزمالك في مطلب واحد.. ونريد مشاركة الأهلي في الإصلاح ولكن    أسعار ومواصفات بيجو 2008 موديل 2024    حظك اليوم برج القوس الأحد 30-6-2024 مهنيا وعاطفيا    عصام عبد الفتاح يكشف فضيحة تلاعب كلاتنبرج بالخطوط لصالح الأهلي    ملف يلا كورة.. مصير الشناوي.. انتصار الزمالك.. ونهاية مشوار موديست مع الأهلي    ما هي أول صلاة صلاها الرسول؟.. الظهر أم العصر    من هو أول من وضع التقويم الهجري؟ ولماذا ظهر بعد وفاة الرسول؟    «السيستم عطلان».. رابطة مصنعي السيارات تكشف أسباب تكدس العربيات في الموانئ    عاجل.. فيروس "حمى النيل" يهدد جنود الاحتلال الإسرائيلي.. وحالة من الرعب    اعرف وزن وطول طفلك المثالي حسب السن أو العمر    حماس: ما ينقل عن الإدارة الأمريكية بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة يأتي في سياق ممارسة الضغوط    حكم الشرع في الصلاة داخل المساجد التي بها أضرحة.. الإفتاء تجيب    عمرو أديب: مستقبل وطن يمتلك كوادر تنظيمية تستطيع تخفيف الأزمة الاقتصادية| فيديو    الإجازات تلاحق الموظفين.. 10 أيام عطلة رسمية في شهر يوليو بعد ثورة 30 يونيو (تفاصيل)    5 علامات تدل على خلل الهرمونات بعد الحمل.. لاتتجاهليهم    رئيس لجنة الصناعة ب«الشيوخ»: 30 يونيو ثورة شعب ضد قوى التطرف والتخلف استجاب لها قائد عظيم لتحقيق طموحات الشعب    «الزنداني»: هجمات الحوثيين في البحر الأحمر هدفها كسب تأييد شعبي    بالتزامن مع بداية امتحاناتها.. 14 معلومة عن برامج الماجستير والدكتوراة المهنية بجامعة الأقصر    إصابة 4 أشخاص بينهم طفل بلدغات سامة في الوادي الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تكامل أدوار فرنسي – أميركي
نشر في مصر الجديدة يوم 11 - 07 - 2011

(من المؤكد ان الشعب الفرنسي الذي فجر الثورة الفرنسية التاريخية الشهيرة ما كان يحلم في أي يوم من الأيام أن تتحول الجمهورية الفرنسية إلى زعيمة للثورة المضادة في العمق الاستراتيجي العربي الجنوبي لفرنسا)
عندما تولى نيكولا ساركوزي الرئاسة الفرنسية في السادس عشر من مايو 2007، "تمنى" العرب أن تتمكن ثوابت المصالح المشتركة من التغلب على تغيير استراتيجي هددت رئاسته بإحداثه في العلاقات العربية – الفرنسية نتيجة عوامل مثل كونه الرئيس الفرنسي الأكثر دفاعا عن "أمن" دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإنهاء الاستقلال الفرنسي عن التبعية للولايات المتحدة، وعسكرة السياسة الخارجية الفرنسية، وطموحه إلى إحياء الدور الفرنسي الاستعماري في الوطن العربي وإفريقيا تحت مسميات وعناوين مختلفة، ناهيك عن "خؤولته" اليهودية. وكان "التمني" العربي مدفوعا بحقيقة أن "النظام العربي" الذي استطاع في معظمه التعاطي مع كل هذه العوامل في نسختها الأميركية يمكنه أن يتعامل مع نسخة فرنسية لها.
لكن أربع سنوات من حكم ساركوزي أثبتت بأن التكامل الفرنسي في عهده مع الدور الأميركي إقليميا وعالميا مثل انقلابا كاملا على سياسات اسلافه يهدد الآن كل الانجازات والايجيابيات التي تحققت في العلاقات العربية الفرنسية منذ أنهى الزعيم الفرنسي شارل ديغول "العصر الذهبي" في علاقات بلاده مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد عدوانها الذي قاد الى احتلال أراضي أربع دول عربية في سنة 1967.
وتهديد سياسات ساركوزي للمصالح الفرنسية لا يقتصر على العلاقات مع العرب. ففي 24 شباط / فبراير الماضي على سبيل المثال نشرت لوموند الفرنسية بيانا لمجموعة من ثلاثين دبلوماسيا فرنسيا عاملا ومتقاعدا وجه نقدا لاذعا لسياسته الخارجية التي جعلت "أوروبا لا حول لها ولا قوة، وإفريقيا تفلت منا، والبحر الأبيض المتوسط لا يتحدث معنا، والصين تسحقنا، وواشنطن تتجاهلنا" بسبب "سياسة خارجية هاوية ومزاجية تركز على المجد الشخصي" لساركوزي الذي حول فرنسا من دولة داعية للسلام الى دولة مثيرة للحروب كما قالت فضائية "فرانس 24" في الثامن من نيسان / أبريل الماضي، والذي "سيعلن حربا كل أسبوع" إذا استطاع كي يحرك المشاعر الوطنية ويعزز شعبيته التي وضعته في الترتيب الثالث بعد مارين لوبن الزعيمة الجديدة ل"الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة وأي زعيم للحزب الاشتراكي المعارض، كما قال المعارض له ديديير ماثوس في مقابلة من النيويورك تايمز الأميركية.
لقد كان "تسلل" السفيرين الأميركي روبرت فورد والفرنسي ايريك شوفالييه الى مدينة حماة السورية في الثامن من الشهر الجاري دون التنسيق مع السلطات كما تقتضي الأعراف الدبلوماسية هو المثال الرمزي الأحدث على التكامل الأميركي – الفرنسي في عهد ساركوزي الذي حول بلاده الى شريك منافس أو "شريك مضارب" للولايات المتحدة يحاول انتزاع حصة لنفسه من "الكعكة" العربية، في نسخة أميركية – فرنسية معاصرة للشراكة التنافسية البريطانية الفرنسية التي أنتجت اتفاقية سايكس – بيكو التي تقاسم بموجبها البريطانيون والفرنسيون الوطن العربي في مطلع القرن العشرين الماضي.
لقد أخرج ديغول فرنسا من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي "ناتو" واستقل ببلاده عن المحور الأنغلو – أميركي في قيادة الغرب، مما أرسى أساسا موضوعيا لشراكة عربية – أوروبية على أساس الند للند والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل ومنح الأمل للعرب في دور أوروبي مستقبلي مستقل عن التبعية للولايات المتحدة، وقد اكتسب هذا الدور الأوروبي المأمول عربيا أهمية أكبر بعد انهيار المنظومة الاشتراكية الدولية بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق. وكانت سورية، على سبيل المثال، في طليعة الدول العربية التي بنت علاقاتها الخارجية مراهنة على هذا الدور لتخص أوروبا بحوالي نصف تبادلها التجاري.
لذلك فإن تصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلم في الثاني والعشرين من الشهر الماضي بأن لدى فرنسا "أجندة استعمارية" وبأن سورية "ستنسى أن أوروبا على الخريطة" كان تعبيرا عن صدمة خيبة أمل عميقة تعكس إحساسا جريحا بالخيانة بعد تاريخ طويل من الرهان على موقف أوروبي مستقل يوازن الانحياز الأميركي السافر غير المشروط إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي في الصراع العربي معها بعد أن أسقطت أوروبا بقيادة ساركوزي هذا الرهان الذي رعته سورية بحرص وعناية طوال حوالي خمسة عقود من الزمن، أكثر مما كان تصريح المعلم تعبيرا عن سياسة سورية مدروسة للتوجه "شرقا وجنوبا" ونفض اليد نهائيا من أوروبا.
لقد أظهر غياب أي تمثيل سوري له حد أدنى من الصدقية في المؤتمر الذي استضافته العاصمة الفرنسية خلال الأسبوع الماضي ضد سورية بحجة "التضامن" مع المعارضة للنظام أن سياسات ساركوزي العربية تورط فرنسا في رسم صورة سلبية لها تتعزز في الأوساط العربية ولا تقتصر على الحكومات بل تمتد إلى المعارضة أيضا. وقد نظم هذا المؤتمر برنارد – هنري ليفي وبرنار شالشا وكلاهما معروف بولائه للحركة الصهيونية ودفاعه عن دولة الاحتلال الاسرائيلي ومشروعها الصهيوني وأمنها واحتلالها وتوسعها الاقليمي والاستيطاني. وافتتح المؤتمر بعرض شريط تحول الى ما وصفته صحيفة الأخبار اللبنانية الى "مرافعة ضد القومية العربية" بدأ بانتقاد حزب البعث ثم انتقد الزعيم العربي المصري الراحل جمال عبد الناصر بحجة أن "الوحدة" بين سورية ومصر، لا "الانقلابات العسكرية"، هي التي قضت على "الديموقراطية" في سورية. وقد تحول ليفي بخاصة الى مستشار أول للرئيس ساركوزي في الشؤون العربية فكان فيلسوف الانقلاب على السياسة الفرنسية المعارضة للحرب الأميركية على العراق، ومنظر تحويل فرنسا الى كاسحة ألغام أمامية للتدخل العسكري الأميركي – الفرنسي الذي يستخدم الناتو من أجل تغيير النظام في ليبيا، وها هو الآن يمهد الرأي العام الفرنسي لتكرار السيناريو الليبي في سورية.
لقد فاجأت ثورتا تونس ومصر إدارة ساركوزي، فأطاحت الأولى بنظام تونسي كان على علاقات وثيقة معها، بينما أطاحت الثانية بالرئيس السابق حسني مبارك الشريك المصري لفرنسا في رئاسة الاتحاد المتوسطي. وقادتا الى تعديل وزاري فرنسي حل فيه آلان جوبيه محل برنار كوشنير في وزارة الخارجية. ورافق هذا التعديل تغيير استراتيجي في السياسة الخارجية الفرنسية حاول أن يعوض بالتدخل العسكري الفرنسي عن العجز الأميركي عن التعامل عسكريا مع المضاعفات الاستراتيجية لتغيير النظامين في تونس ومصر، وكلاهما كان محسوبا على الغرب.
وربما لا يرى المراقب غير المتعمق أي علاقة بين التحرك المصري بعد ثورة 25 يناير نحو فك الشراكة المصرية مع دولة الاحتلال الاسرائيلي في حصار قطاع غزة الفلسطيني، أو نحو توجه مصري باتجاه "تطبيع" العلاقات مع إيران، لكن هذين التحركين على وجه التحديد لهما علاقة وثيقة بالقرار الأميركي – الفرنسي للتدخل العسكري في ليبيا، ثم للتمهيد لتدخل مماثل في سوريا، لأن تدخلا كهذا فقط هو الذي يمكنه حرف الحراك الشعبي العربي من حراك يستهدف الأنظمة المتحالفة أو المتساوقة مع الاستراتيجية الأميركية – الغربية في الوطن العربي الى حراك يستهدف الأنظمة المعارضة لهذه الاستراتيجية، لقطع الطريق على أي تنسيق مصري – سوري كان تاريخيا هو المحور العربي القادر على احباط كل الأطماع الخارجية في الوطن العربي.
وقد فتحت الثورة المصرية الباب موضوعيا أمام إعادة بناء المحور المصري - السوري. إن دول الخليج العربية التي انساقت مع التكامل الفرنسي – الأميركي في الاحتواء العسكري لمضاعفات تغيير النظامين في تونس ومصر مدفوعة بمخاوف مشروعة من ملئ إيران للفراغ الناجم عن غياب التضامن العربي قد غاب عنها أن إحياء التنسيق المصري السوري هو وحده الكفيل بتأمين بديل عربي للنفوذ الآيراني المتنامي، وهو بديل إذا ما تعزز بالدعم العربي الخليجي له في مواجهة الأطماع الغربية – الاسرائيلية التي تستهدف العرب كافة فإنه كفيل بإحياء التضامن العربي وتحييد البديل الايراني له دون خسارة الاضافة الايرانية الهامة الى أي نظام أمن اقليمي خارج إطار الاستراتيجية الأميركية – الغربية التي تعتمد دولة الاحتلال الاسرائيلي محورا أساسيا لها.
وقد نجح التدخل العسكري السافر الأميركي – الفرنسي في ليبيا، ونجح الاستقواء بالتهديد بتكرار هذا التدخل في سوريا، في تركيز الاهتمام الدولي على الدعوة الشعبية الى الاصلاح والتغيير في هذين البلدين العربيين بينما ما زالت القيادة الأميركية – الفرنسية لهذا التدخل تراوغ إعلاميا في تأييدها اللفظي الخجول للدعوة الشعبية المماثلة الأوسع نطاقا والأكثر صدقية في البلدان العربية "الشريكة" لهذا التدخل في إطار حلف الناتو (البحرين مثالا) أو في البلدان العربية التي يكون لتغيير النظام فيها نتائج تهدد مصالح الشراكة العربية مع التدخل العسكري الغربي كما هو الحال في اليمن، وهذه المراوغة الأميركية – الفرنسية بالكاد تستر الدعم الغربي للأنظمة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية في مثل هذه البلدان العربية.
وقد كان الدور الفرنسي حاسما في هذا التحول في الاهتمام الدولي، وكان سافرا حد أن يتحول الى مصدر فخر واعتزاز لساركوزي وحكومته، في ليبيا وفي سوريا على حد سواء، وحد أن يتحول الى العنوان الغربي للثورة المضادة الوطن العربي. ومن المؤكد ان الشعب الفرنسي الذي فجر الثورة الفرنسية التاريخية الشهيرة ما كان يحلم في أي يوم من الأيام أن تتحول الجمهورية الفرنسية إلى زعيمة للثورة المضادة في العمق الاستراتيجي العربي الجنوبي لفرنسا. والمفارقة ان رئاسة ساركوزي تحاول مخاطبة "المجد الاستعماري" الكامن في ذاكرة غلاة اليمين الفرنسي من أجل تحسين شعبية ساركوزي التي كانت تتدهور في استطلاعات الرأي العام الفرنسي حتى بلغت حوالي 25% قبل التدخل العسكري في ليبيا.
وكان التدخل الفرنسي مكملا للتدخل العسكري الأميركي حيث حالت أسباب عملية دون التدخل الأميركي المباشر. ومن هذه الأسباب الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة منذ عامين. ومنها نشر القوات الأميركية الى الحد الأقصى الذي يحول دون نشر المزيد منها من دون اللجوء الى التجنيد الاجباري بعد مضي عشر سنوات على احتلال أفغانستان والحرب الأميركية المستمرة عليها دون حسم عسكري حتى الآن، ومضي ثماني سنوات على احتلال العراق والحرب الأميركية المستمرة عليه دون حسم عسكري حتى الآن.
فالرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اضطر لاتخاذ قرار الحرب في ليبيا دون مشورة الكونغرس ومصادقته قد فعل ذلك لفترة قصيرة معتمدا على أن يسلم المهمة لفرنسا ساركوزي كي تكملها تحت مظلة الناتو. وإذا كانت الحالة الليبية هي خير مثال واضح على التكامل الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وبين فرنسا، فإن الشريك الفرنسي المنافس أو المضارب كان الى جانب الولايات المتحدة منذ تولى ساركوزي الرئاسة في كل المبادرات الأميركية الدبلوماسية والسياسية في إطار الأمم المتحدة ومجلس أمنها أو خارج هذا الاطار في أفغانستان والعراق وليبيا ولبنان وسورية والصراع العربي الاسرائيلي.
فمشروع الاتحاد المتوسطي الذي كان عماد سياسة ساركوزي الخارجية في "الشرق الأوسط وشمال افريقيا" هو نسخة فرنسية لمشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الأميركي، وكلا المشروعين يستهدف إنهاء أي نظام عربي ما زال واقفا على قدميه من أجل دمج دولة الاحتلال الاسرائيلي في المنطقة ضمن نظام اقليمي اوسع من أي نظام عربي. وكانت المبادرة الفرنسية الأخيرة لاحياء المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية الثنائية المباشرة هي النسخة الفرنسية لمبادرة باراك أوباما الأميركية في مستهل عهده وربما لهذا السبب كان مصير النسخة الفرنسية هو الفشل الذي أصاب المبادرة الأميركية الأصلية. ويكفي اي مراقب أن يلحظ الرعاية الأميركية – الفرنسية المشتركة لكل القرارات التي اتخذها مجلس الأمن الدولي خلال السنوات القليلة الماضية بشأن القضايا العربية حتى يدرك التكامل الفرنسي – الأميركي في الهيمنة على الوطن العربي. وبعد أربع سنوات على وجوده في الرئاسة الفرنسية يتأكد اليوم أن التهليل الاسرائيلي لفوزه كان في محله.
لقد كان ساركوزي هو الذي فك العزلة الغربية التي فرضتها الولايات المتحدة على ليبيا معمر القذافي وسورية بشار الأسد. فقد فرش السجاد الأحمر للقذافي في كانون الأول / ديسمبر عام 2007، واعتبر أنه "لايعتبر دكتاتورا في العالم العربي" وأن كونه "رئيس الدولة الأطول حكما في المنطقة هو ما يهم"، مع أن طول حكم القذافي هو الذي فجر الانتفاضة الشعبية عليه، ثم فرش السجاد الأحمر للأسد في تموز / يوليو العام التالي ليضعه الى جانبه في الموكب المهيب بشارع الشانزليزيه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني لفرنسا.
إن انقلاب ساركوزي على الرجلين اليوم يظهره كشخصية لا يؤتمن جانبها وينبغي الحذر من "ضيافتها" والتفكير مليون مرة قبل الثقة فيها. ومن المؤكد أن العلاقات الدولية، ومنها العلاقات العربية مع فرنسا، لا يمكن بناؤها على مثل هذا النوع من السلوك المتقلب والغادر وبخاصة إذا كان مدعوما بعسكرة للسياسة الخارجية لدولة نافذة في صنع القرار الدولي مثل فرنسا وتعتبر القوة العسكرية الثانية بعد الولايات المتحدة اقليميا والقوة الدبلوماسية الثانية بعدها عالميا.
إن "الربيع العربي" هو "نقطة تحول كبرى في التاريخ، ربما يمكن مقارنتها بسقوط جدار برلين" كما قال وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه، وما يحدث في "الشرق الأوسط الآن يمكن أن يكون التغيير الجيوستراتيجي الأهم منذ سقوط جدار برلين" كما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي جون كيري، وهو "الحدث الرئيسي حتى الآن في القرن الحادي والعشرين، فهو أهم من الأزمة المالية عام 2008 .. وأهم في نتائجه في الأمد الطويل من الحادي عشر من سبتمبر" في الولايات المتحدة كما قال وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ.
وقد وصف أمين عام حلف الناتو، آندرز فوغ راسموسن، في خطاب له في الأول من الشهر الماضي ما يحدث في الربيع العربي بايجاز بليغ: "ما الذي تغير؟ جيل أصغر سنا يطالب بغد أكثر إشراقا. لسنوات طالت أكثر من اللازم سمع هذا الجيل عن النمو الاقتصادي، لكنه لم يشعر بفوائده. لقد شاهد الثروة، لكنه كان عاجزا عن المشاركة فيها. وبعضه شاهد حتى الانتخابات، لكنه لم يعش الديموقراطية. والآن يريد هذا الجيل أن يحصل على كل ذلك في الواقع. وهذه بداية تحول طويل ومعقد يمكن أن يكون مضطربا، لكنه سوف يصوغ شكل المنطقة والعالم لسنوات مقبلة".
إنه حقا تحول ثوري تاريخي يضع فيه ساركوزي فرنسا في جانب الثورة المضادة ضد حركة التاريخ، وقد أثبت التاريخ ان من يعاند حركته يكون خاسرا في النهاية. والمفارقة أن راسموسن الذي أجاد في وصف هذا التحول لم يجد في خطابه ذاته ما يقتبسه من العرب سوى ما قاله رجل "في الرابعة والثمانين من العمر من مصراتة" الليبية التي تحاصرها قوات القذافي: "لو لم يرسل الله الناتو، لكانوا أحرقونا جميعا"، ليوحي راسموسن أن حلف الناتو والله سبحانه يقفان في خندق واحد، ومعاذ الله جل جلاله!
* كاتب عربي من فلسطين
* [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.