أتذكر حوارا مطولا دار قبل نحو 10 سنوات مع أحد المسئولين، جمعتني به صدفة السفر بالقطار إلي سوهاج لتغطية صحفية، كان الرجل قلقا من مستوي الفنادق في المدينة، وكيف سيصل إلي موقع عمله في الصباح الباكر، رغم أن لديه من الإمكانيات ما يعينه علي تسهيل مهمته، ونقله إلي أي مكان يريد، وأبدي الرجل انزعاجا حقيقيا من مستوي الطرق في الصعيد، التي افترض أنني أعرفها جيدا، وكيف أن ساعات السفر بالقطار لا تساوي شيئا أمام عذاب الانتقالات الداخلية بين مدن وقري الصعيد. تساءلت بداخلي: إذا كان هذا هو حال المسئولين وأصحاب القرار، فكيف بحال الغلابة من المواطنين البسطاء، الذين لا يملكون حيلة سوي الفرار من مدنهم ومحافظاتهم الفقيرة، نحو القاهرة والمدن الكبري التي تستأثر بنصيب الأسد من مخصصات التنمية ومشروعات العمران. وقبل يومين توقفت كثيرا أمام العديد من الافتتاحات الكبيرة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي في محافظات الصعيد، مستشفيات وطرق ومجمعات صناعية ومشروعات للإسكان وأخري للتجارة، إعادة بناء حقيقية ورسم جديد لخريطة البلاد، شرايين حيوية للتنمية تنقل العمران إلي مناطق هزمها الفقر، وحاصرها المرض، ونالت منها يد الإهمال علي مدي عقود. قد يحاول البعض التقليل من أهمية تلك المشروعات، بل وإهالة التراب علي كل إنجاز يتحقق علي أرض بلادنا، فالبعض أدمن ارتداء النظارة السوداء، والبعض الآخر أعماه موقفه السياسي عن رؤية الواقع، لكنها الحقيقة التي تبدو ساطعة كشمس الصعيد، فقد أتاح لي عملي الصحفي والأكاديمي، وبمبادرات خلاقة من كلية الإعلام، وتحديدا مركز بحوث المرأة والإعلام خلال رئاسة أستاذتي الدكتورة نجوي كامل له، التنقل بين أكثر من محافظة بجنوب مصر، وهو البرنامج الذي أتاح لعدد كبير من الصحفيين والباحثين الوقوف علي واقع الحياة في الصعيد ولقاء الناس وجها لوجه والاستماع لأصواتهم دون وسطاء، وفي كل مرة كنت أسافر فيها تصيبني حسرة بسبب تلك التنمية التي تقتصر علي »الكورنيش»، فكل الاهتمام بتنمية الصعيد ينصب علي تلك المناطق التي يراها الزائرون من خلف زجاج سياراتهم المكيفة، فيظنون أن الصعيد قد تحول إلي جنة. وباستثناء تجربة اللواء عادل لبيب عندما كان محافظا لقنا، لا أعتقد أن الصعيد عرف تجربة تنمية حقيقية، لذلك أقول صادقا إن ما يشهده صعيد مصر اليوم ليس مجرد تجربة تنموية، وإنما ثورة حقيقية تعوض أهلنا هناك عن عقود من التجاهل والتهميش، تحولت فيها مدنهم إلي منفي للمغضوب عليهم، وجبالهم مرتعا للضالين. صعيد مصر يمكن أن يفتح لمصر أبواب النعيم إذا ما أحسنا استغلال ثرواته البشرية قبل المادية، وإذا ما حصل علي ما يستحقه من اهتمام، ويمكن لهذا الصعيد أيضا أن يفتح علينا أبواب الجحيم، إذا ما تُرك بغير تنمية فتستفحل فيه قوي الجهل والظلام، وسنوات التسعينات من القرن الماضي خير دليل. الإرهاب لا يعيش إلا في الجحور، والتطرف لا ينتعش إلا في بيئة الجهل والتهميش، والتنمية والتعمير وإعادة بناء الشخصية المصرية سلاحنا للانتصار، شاء من شاء وأبي من أبي.