استدرت في مكاني لأعود من حيث جئت فوجدته أمامي كأنه شعاع أمل كنت أبحث عنه لعله يكشف لي بصيص نور في تلك الأجواء الملبدة بالغيوم رفعت رشاد الأحد: رغم أن الوقت كان خريفا إلا أن ربيع القلب كان في أوج ازدهاره في ذلك اليوم الذي وافق أول يوم دراسة لي بكلية الآداب بسوهاج من العام الدراسي 81-82 والذي جاء عقب اغتيال الرئيس انور السادات بأيام قليلة حيث وصلت مقر الكلية باحثا عن قسم الصحافة فلم أجد شيئا له معالم ممكن أن تدلني عليه، كما لم أجد أحدا استفسر منه علي مكان المحاضرات وهممت بمغادرة المكان، وقد بدأت الظنون تنهشني معتقدا أن الجامعة إذ ربما تكون قد ألغت قسم الصحافة هذا العام نظرا للظروف السياسية التي أعقبت اغتيال السادات وندبت حظي متمتما:أهكذا تنتهي علاقتي بالصحافة قبل أن تبدأ ،هل أعود للأقصر بخفي حنين ، وماذا أقول لأهلي وأصدقائي الذين رفضت الانصياع لرغبتهم التي أجمعوا عليها بأن ألتحق بقسم الآثار مثل الغالبية العظمي من أبناء الأقصر الذين يرغبون في دراسة الآثار باعتبارها أكثر واقعية نظرا لما تحتويه الأقصر من معابد أثرية.ماذا سيكون رد فعل أبي المعار في اليمن بعد أن استغاثت به أمي في خطاب أملته عليَ لأرسله له قائلة فيه:»ولدك مصمم يدخل قسم صحافة ومش راضي بالآثار » فجاء الرد في خطاب قرأته لها يقول فيه الوالد الغائب:» سيبيه يدرس صحافة براحته أهو مؤهل وخلاص ملوش علاقة بالشغل وممكن لما يتخرج يبقي يشتغل مدرس تاريخ لكن لو منعناه من دراسة الصحافة ممكن يعيش في دور الضحية ويعملنا شهيد ويحملنا ذنبه طول العمر». كيف أبرر عودتي السريعة لأقراني وأصدقائي من رفقاء ملعب كرة القدم وندماء السهر علي ناصية حارة أيوب بك صبري بالمنشية وشارع محمد فريد وأنا الذي أصررت علي أن يتجمعوا كلهم في محطة السكة الحديد بالأقصر لتوديعي عند سفري إلي سوهاج مؤكدا لهم أن إصلاح الصحافة في مصر بل والعالم سيكون علي يد العبد لله؟.كيف سأواجه كل هؤلاء ولماذا تلغي الجامعة قسم الصحافة، هل كان للصحافة أي دور في اغتيال السادات فيتم معاقبتها بإلغاء دراستها علي مستوي الجمهورية وهل هذا يعني أن كلية الإعلام الحلم الذي حال بيني وبينه مجموع الثانوية العامة هي أيضا قد أصبحت ماضيا لا عودة له؟ هل أعود للأقصر اليوم أم أنتظر للغد لعل وعسي.وبماذا يفيد الانتظار. فلتلملم أحزانك ولترحل..هكذا قلت لنفسي قبل أن أبدأ رحلة العودة. استدرت في مكاني لأعود من حيث جئت فوجدته أمامي كأنه شعاع أمل كنت أبحث عنه لعله يكشف لي بصيص نور في تلك الأجواء الملبدة بالغيوم في ذلك النهار الخريفي القاسي علي نفسي، تقدم مني ومد يده مصافحا وهو يقول:» محمد رشاد محمد علام بس تقدر تقولي يارفعت..أولي صحافة» ،فقدمت له نفسي:هشام أحمد مبارك أولي صحافة أيضا، وهممت بأن أسأله:وماعلاقة رفعت بمحمد لكن فرحة اللقاء به طغت علي دهشتي من أن يكون اسم الدلع لمحمد هو رفعت.المهم أن هناك قسماً للصحافة ، نعم وهناك طلبة آخرون في القسم بدليل محمد رشاد أو رفعت رشاد الذي أعاد بظهوره أمامي كل أحلامي التي أوشكت أن تتبخر في لحظة فلم أتمالك نفسي واحتضنته كما لو كنت أعرفه من سنين قائلا:»مش مهم محمد ولا رفعت المهم إننا صحفيين زي بعضنا»! فقال ضاحكا:»اهدي بس ياصعيدي وتعالي ننقل جدول المحاضرات شكله هو إللي علي السبورة هناك أهو» ، ففهمت من لهجته وكلمة ياصعيدي أنه من أبناء الوجه البحري وخشيت أن يكون ممن لا يرون في الصعايدة إلا مادة للتنكيت ولكن رفعت وكأنه قرأ أفكاري عندما تسمرت في مكاني عقب كلمة ياصعيدي فقال وهو يمسك بيدي: »ماتخافش أنا صعيدي زيك واتولدت هنا في سوهاج بس عايش في القاهرة وجاي سوهاج علشان خاطر عيون الصحافة».نظرت إلي حيث أشار فلمحت في طرقة كبيرة خالية من أي طلبة أو طالبات سبورة كبيرة عليها مجموعة كبيرة من الجداول بجميع المحاضرات فأخرج كل منا ورقة وقلما وبدأنا في نقل الجدول ووقتها فقط تنفست الصعداء وقلت لرفعت:انت كنت فين من الصبح؟ طوال أربع سنوات الدراسة مارست الصحافة سماعي من خلال رفعت رشاد الذي كان يتدرب في جريدة الأخبار خلال الإجازات ويعود ليحكي لنا ماذا فعل في الأخبار وفي قسم التحقيقات الذي كان يتدرب فيه تحت رعاية نخبة من الاساتذة الكبار مثل سيد الجبرتي وجمال الشرقاوي وعفاف يحيي ومحمود عبد العزيز حنفي وغيرهم من الأسماء الرنانة التي كان مجرد سماع أسمائها يمثل لنا حالة جمالية رائعة نحلق خلالها مع أحلامنا في العمل بالصحافة ومزاملة هؤلاء العمالقة وكنت أضحك وأنا اسأل رفعت: يعني عايز تفهمني إنك بتشوف مصطفي أمين وبتسلم علي موسي صبري بإيدك دي وكمان بتقعد مع عبد المجيد نعمان وسعيد سنبل وجلال دويدار وسعيد اسماعيل؟ طب قولي بصراحة يعني اسماعيل النقيب يعرفك ويعرف اسمك؟ وغيرها من الأسئلة التي كان رفعت يجيبني عليها ضاحكاً: أيوه ياصعيدي طبعا إنت مش مصدقني ولا إيه؟ عموما بكرة لما تيجي تزورني في الأخبار مع الرحلة العلمية للقسم حاتشوف بنفسك. ولسوء الحظ ألغت الكلية الرحلة العلمية لقسم صحافة في ذلك العام وهي التي كنا نبني عليها آمالاً عريضة في زيارة المؤسسات الصحفية ورؤية كبار الكتاب وجها لوجه! كان من الطبيعي عندما حزمت حقائب أحلامي وسافرت من الأقصر للقاهرة أن يكون باب رفعت رشاد هو أول باب أطرقه فهو بالنسبة لي الصحافة كلها ، أتذكر وقتها أن رفعت قال لي وهو يرحب بي: »أقولك الصراحة ، مكنتش متخيل إنك حتاخد الخطوة دي وتسيب الصعيد وتيجي علشان تشتغل في الصحافة عموما إنت حظك حلو واستعد للشغل من بكرة ياحلو»! لم أصدق نفسي ولا زلت لا أصدق نفسي بعد مرور كل هذه السنوات بأن الله حقق لي أحد أهم أحلامي في الحياة إن لم يكن أهمها علي الإطلاق بدخول بلاط صاحبة الجلالة.وفي اليوم التالي من وصولي للقاهرة كنت أعمل في الصحافة ليس فقط في الأخبار ولكن في الأخبار والجمهورية أيضاً ولعلنا نكشف في يوميات قادمة تفاصيل تلك الحكاية العجيبة بعيدا عن هذه اليوميات التي أردت من خلالها الحديث عن رفعت رشاد صديقي الصدوق الذي لم نفترق ولم نختلف يوما طوال سبعة وثلاثين عاما وأزعم أن رفعت الذي قابلته في أول يوم دراسة عام 81 هو نفسه رفعت الذي تخرجنا معا من كلية آداب سوهاج في دفعة العام 1985 وهو نفسه رفعت الذي ألتقيه يوميا في مكتبه بالدور الرابع الذي يتجمع فيه يوميا كل الزملاء علي اختلاف أطيافهم وميولهم السياسية. لو تركت نفسي للكتابة عن شخصية رفعت رشاد لاحتجت لعشرات الصفحات من الجريدة فمساحة اليوميات مهما كبرت لن تفي بحق هذا الصديق الذي كان ولا يزال نجم دفعة 85 صحافة سوهاج ، تلك الدفعة الزاخرة بالنجوم الذين أثروا الحياة الصحفية والإعلامية في مصر بل والوطن العربي ووصلوا إلي أعلي المناصب فيها ولو كان لنا في العمر بقية لعدنا للحديث عن نجوم هذه الدفعة التي لم يتكرر مثلها كثيرا سواء علي مستوي كلية الإعلام أو علي مستوي أقسام الصحافة التي انتشرت فيما بعد في غالبية الجامعات المصرية.وكذلك كان أساتذتنا في قسم الصحافة بسوهاج نجوماً سواء من رحل منهم عن دنيانا أو من بقي منهم بيننا حتي اليوم ننهل من علمهم وكل منهم يستحق ربما يوميات أو أكثر ولو طال بنا العمر لحاولنا أن نعطي كلا منهم ولو جزءا من حقه علينا. عادل دربالة وعروس النيل الإثنين: لماذا تأخرت ياعادل؟ هكذا سألت زميلي وصديقي العزيز عادل دربالة مدير تحرير الأخبار وهو يهديني باكورة مؤلفاته: لبني عبد العزيز عروس النيل.نعم تأخر عادل دربالة كثيرا في حق نفسه وقرائه وهو القادر علي أن يثري المكتبة الفنية في مصر بعشرات إن لم يكن مئات المؤلفات عن نجومنا الكبار وذلك بما لدي عادل من علاقات واسعة اكتسبها منذ أن كان صحفيا تحت التمرين في قسم أخبار الناس تحت إشراف واحد من عمالقة جريدة الأخبار ألا وهو الراحل الجميل نبيل عصمت أو أبو نضارة الذي اشتهر بعموده اليومي (عزيزي) ، ذلك النجم الصحفي الذي لازمه عادل حتي شرب منه »صنعة» كتابة خبر لأخبار الناس وهي صنعة لا تتوافر لكثيرين فقد ابتكرها نبيل عصمت ثم سارت علي دربه الزميلة العزيزة المتميزة آمال عبد السلام ثم عادل دربالة الذي قفز في شارع الصحافة خطوات عملاقة حتي وصل عن جدارة واستحقاق لرئاسة صفحة أخبار الناس. كتاب لبني عبد العزيز عروس النيل الصادر عن صندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة والذي يرأسه الدكتور أحمد عواض وذلك علي هامش المهرجان القومي للسينما المصرية برئاسة الرائع سمير سيف وتولت المبدعة مي عبد القادر التصميم الجرافيكي للكتاب والإشراف علي الطباعة الفاخرة والتي أضافت للكتاب بريقا خاصا »يفتح النفس» للقراءة إضافة طبعا للمادة التي تضمنها الكتاب والتي وضح عليها الجهد الكبير الذي بذله عادل دربالة في إعدادها وقد قسمها إلي عدة فصول تدور كلها حول تلك الفنانة المتميزة لبني عبد العزيز فتاة الجامعة الأمريكية والطالبة التي انتقدت عباس العقاد ولقائها بالعندليب الأسمر عندما قدما لنا أحد أهم كلاسيكيات السينما العربية الوسادة الخالية ، ودور الصحافة في حياة لبني. شكرا عادل دربالة علي هذا الكتاب القيم ولعله يكون بمثابة فاتح شهية لك لكي تمتعنا بالعديد من الكتب عن هؤلاء النجوم وإنا لمنتظرون. طبيب أسنان الثلاثاء: حكي لي صديق رجل أعمال يمتلك شركة متوسطة أن أحد كبار العاملين في السن لديه قد تجاوز عمره التسعين عاما ويشتكي كثيرا من آلام مبرحة في أسنانه وكلما صنع له الأطباء أسنانا صناعية فشل في استخدامها نظرا لتغير وضع اللثة كثيرا في هذه السن المتقدمة.المهم أن صاحب الشركة رأي من واجبه الإنساني أن يساعد الرجل الذي قدم عمره للشركة فاصطحبه في سيارته لطبيب أسنان في مصر الجديدة وفور أن ركب الرجل المسن سيارة رجل الأعمال الخاصة أخرج من جيبه مظروفا ومد يده به لرئيس الشركة وهو يقول: دول ألفين جنيه خليهم مع حضرتك ، أنا عارف إن علاج الأسنان بيكلف اليومين دول ، فرفض الرجل أن يأخذ المظروف وقال له حتي لا يجرحه: خليهم بس دلوقتي في جيبك ياعم فلان لغاية لما نشوف حانعمل إيه.وفور أن وصل للطبيب أجري الكشف وقال لرجل الأعمال أن المريض يعاني في غالبية الأسنان وأنه من الممكن علاجه في ثلاث ساعات حيث لديه في العيادة كل أجهزة الأشعة وتصنيع الأسنان الجديدة التي سيتم زرعها فقال الرجل بحسن نيه: توكل علي الله ،وبالفعل بدأ الطبيب ومساعدوه في إجراء اللازم وكان كل هم رجل الأعمال أن يراقب وجه المريض خوفا عليه في هذه السن المتقدمة وبعد ثلاث ساعات بالتمام والكمال انتهي الطبيب من عمله وجاءت لحظة الحساب حيث فوجيء صديقي بالطبيب يطلب ثلاثة وثمانين ألف جنيه ! في البداية ظن الرجل أن الطبيب يمزح فلما سأله أعاد تكرار نفس الرقم فدارت به الأرض وعندما اندهش قال له الطبيب: أنا ممكن أعمل لحضرتك تخفيض ،كفاية 80 ألفا فقال رجل الأعمال: لا وجاي علي نفسك ليه شكرا لا داعي للتخفيض فقط أمهلني للغد لأحضر لك شيكا بالملبغ فليس من الطبيعي أن يخرج أي مريض مهما بلغت مقدرته المادية لأي عيادة وفي جيبه ثلاثة وثمانين ألف جنيه كاش. يعقب صديقي علي الواقعة بقوله أنه حمدالله أن الحوار بينه وبين الطبيب تم بعيدا عن الرجل المريض الذي لا يعرف طبعا تكلفة العلاج وربما لو سمع المبلغ لكانت نهايته.وعلي الرغم من أنه سدد المبلغ بالفعل في اليوم التالي إلا أنه يسأل وأنا أشاركه الدهشة عن هذا الجنون الذي أصاب تكلفة علاج الأسنان في مصر ولماذا هذه المبالغة في تقدير الأتعاب ؟ أتذكر أني قد سألت طبيب أسنان كان يعالج لي ضرسا أصابه الوهن عن السبب في ارتفاع أسعار العلاج فأشار إلي أحد الأجهزة في العيادة وقال: هل تعرف ثمن هذا الجهاز؟ فقلت: وهل هذا مبرر لرفع الأسعار وكأنك تحصل ثمنه من المرضي؟ أنت من مصلحتك وجود هذا الجهاز ليساعدك في عملك وفي نجاحك وبالتالي في زيادة زبائن العيادة ولكن ماذنب المريض وماذا يفعل من لا يفي راتبه ولو بربع تكلفة زيارة واحدة لطبيب أسنان؟