كثيرا ما يلاحظ المرء نوعا من »العنف المعنوي» يحلق في قاعات الحوار الفكري الدائر بين متحاورين يتخذون »الشخصانية» مبدَأ معتادا في جلساتهم الفكرية، حيث يكرسون جهدهم لنقد الآخر مبرزين عضلات أمخاخهم من أجل التعدي علي من يتحاورن معه، وفي ذات اللحظة يكون رد فعل الآخر عنيفا باعتباره طرفا تم الاعتداء علي شخصة، ومن ثم خروج النقد عن دائرة موضوع الحوار. ويبدأ الاعتداء بالنظرة أو بالكلمة أو بالإشارة، وهي كلها رموز تنطوي علي دلالات لفظية أوإشارات أو إيماءات تنتمي إلي نمط مهين من أنماط »العنف»، حيث تصبح التكلفة الاجتماعية والنفسية قاسية وأكثر كثيرا من العنف المادي سريع الزوال. إن تنكيد معنويات الآخر بأفعال تحمل دلالات معنوية تكون أشد إيلاما لما تحمله من معاني العنف، فإذا كان العنف، الموجّه إلي الطرف الآخر يتخذ الإيذاء البدني أو القهر المادي هدفا له لأنه يصبح خطرا يفقد فيه الإنسان القدرة علي الحركة وشل إمكاناته البدنية والمادية، فإن العنف المعنوي أكثر خطرا فهو يقود إلي هدر قدرات البشر ككل أي يخلق حالة مجتمعية يفقد فيها المجتمع قدرات مفكريه؛ ثقافيا وأخلاقيا ونفسيا حيث يحبط معنويات جمع من المفكرين لديهم القدرة علي المشاركة في صنع التقدم والتطوير التنموي ويجعلهم يفتقدون الرغبة في التحاور بموضوعية مع الآخر كما يفتقدون الثقة أو المشاركة في عمليات التطوير، ويقلل لديهم فرص الإبداع، كما قد يؤدي بهم إلي التخلي عن مشاركتهم في الحياة العامة. ولعل أهم أشكال العنف ومظاهره، تتجلي بوضوح في مواقف اللقاءات الثقافية والحوارات الفكرية التي تضم شرائح اجتماعية مفترض أنها صفوة تمتلك قدرات التحاور الموضوعي والتثاقف الواعي، بل تملك الفصل بين الذاتي والموضوعي؛ بين الشخصانية والحيادية في الفكر. إن من يتابع البرامج الحوارية والمنتديات العلمية والثقافية وجلسات »التوك شو» التلفازية يستطيع دون جهد رصد أنماط متعددة من العنف المعنوي الموجه للآخر والدائر بين جمع المتحاورين، وهنا تتحول اللقاءات إلي ساحات تقتصر علي جدل »سفسطائي» لا ينتهي، وحوارات فقهية عقيمة، وصراعات لفظية تفقد معناها وتذوب أهدافها في مسارات جانبية لا طائل منها، فمن المفترض والمنطقي أن يتحاور المتحاورون أملا في الوصول إلي نقاط التلاقي كأساس للتراكم المعرفي، لا التباعد والتنافر والصراع وهو ما يقود بالضرورة إلي الهدر الفكري التنويري، والقضاء علي الطاقة الإنسانية المبدعة. وهكذا تطفو ظاهرة تنكيد المعنويات وتبكيت الروح الابتكارية الكامنة في الإنسان، وهو ما يشكل هدرا ثقافيا ورفضا للآخر دافعا لتدهور الأمم بلغة مفكر القرن الرابع عشر عبد الرحمن بن خلدون. فهل آن لنا أن نتمسك بأدب الحوار ولفظ مفهوم »الشخصانية»؟ استاذ علم الاجتماع بآداب القاهرة