أظن - وليس كل الظن إثماً - أن 500 عام كافية جدا لإزاحة غيوم الرؤية، وضبابية الأحداث، كي نعيد قراءة التاريخ برؤية متوازنة، لكننا - ويا للأسف - لانزال أسري للماضي، غير قادرين علي الخروج من متاهاته المتشابكة، بل لايزال قطاع غير قليل من الناس يحلم بالعودة إلي ذلك الماضي، متناسيا أنه بذلك يسير ضد سنن الله في الكون. ولعل أبرز مثال علي ذلك »التيه الفكري والتاريخي» الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية، هو ذكري دخول العثمانيين إلي مصر قبل 500 عام، بعد هزيمتهم للمماليك في موقعة الريدانية عام 1517.. والغريب أن توصيف »دخول» العثمانيين إلي بلاد الشرق عبر بوابة الشام ومصر، يعد مشكلة في حد ذاتها، فأسري الماضي، والذين يعيشون »نوستالجيا» الحنين الدائم إليه، يعتبرون دخول العثمانيين »فتحا»، بينما يعتبره آخرون »غزوا». والحقيقة أنني وبعد قراءات متنوعة لمصادر ومراجع متباينة حول تلك الفترة لسنوات متواصلة، أجد نفسي أقرب إلي هؤلاء »الآخرين» الذين يعتبرون السيطرة العثمانية علي المشرق العربي الإسلامي غزوا وليست فتحا، وأن حروبهم في المنطقة لم تكن سوي توسع استعماري لا علاقة له بالفتوحات، التي كانت دوما ترتبط بنشر الإسلام، بل إن تلك الفكرة التي صدروها إلينا عن »الخلافة» العثمانية لم تكن إلا انتحالاً تاريخياً لإكساب الحكام الجدد في تلك الفترة قداسة تحصنهم من غضب المحكومين. الحقائق التاريخية تؤكد أن أهل مصر والشام والحجاز، عرفوا الإسلام قبل أن يخرج العثمانيون إلي الحياة من الأساس بقرون طويلة، فعثمان أرطغرل أسس الدولة العثمانية عام 1300 ميلادية، بينما دخل الإسلام مصر علي يد عمرو بن العاص عام 639، وبينما كانت قبائل التركمان التي انحدر منها العثمانيون تكافح مع قطعان الأبقار والماعز بحثا عن المأكل في مراعي آسيا الصغري، كانت مصر تقود العالم العربي الإسلامي للتصدي لغزوات الصليبيين والمغول.. فأي فتح جاء به العثمانيون؟! الخليفة اللص والمشكلة الحقيقية التي أجدها غريبة في الفكر العربي المعاصر، أن كثيراً من التيارات - والإسلاموية السياسية علي وجه الخصوص - تمارس تفسيرا مغرضا للتاريخ، فتسوق لأنصارها أن تلك »الخلافة» العثمانية أنقذت الإسلام وحمت المسلمين، ولا أعرف في أي كتاب يقرأ هؤلاء التاريخ، فالغالبية العظمي من كتب التاريخ المنصفة تشير إلي أن العثمانيين لم يتحولوا إلي امبراطورية حقيقية إلا باستيلائهم - مثلهم مثل أي محتل أجنبي - علي ثروات المنطقة، وأنهم لم يتركوا لنا سوي انغلاق وتخلف، لانزال نعاني آثاره العابرة للقرون، ويتناسي »دراويش» الخلافة الكثير من وقائع التاريخ التي تشير إلي تلك السرقات الكبري التي ارتكبها العثمانيون في مصر وكل إمارات الشرق، فيشير ابن إياس علي سبيل المثال إلي أن السلطان سليم الأول بقي في مصر بعد هزيمته للمماليك ثمانية أشهر، وأنه لدي خروجه من القاهرة عائدا لبلاده، نهب ثروات المصريين من تحف ومقتنيات كانت تذخر بها القصور والمساجد والبيوت، بل إنه أمر رجاله بخلع رخام العديد من القصور والمساجد والأسبلة، وأن جملة ما حمله من مصر كان حمولة ألف بعير، فضلا عما سرقه رجاله »الإنكشارية»، ونهبه لثروة مصر الحقيقية من أمهر الصناع والحرفيين.. لكن أخطر ما سرقه »الخليفة اللص» كان الشرعية الروحية، فلم يجرؤ علي تسمية نفسه خليفة إلا بعد دخوله مصر واستيلائه علي المقتنيات المقدسة لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم والعديد من الصحابة، وهي المقتنيات المعروضة اليوم في متحف »طوقابي سراي» باسطنبول! التفسير الملون للتاريخ والغريب أن من يقرأ حجج المدافعين عن »الفتح» العثماني، يجدهم يركزون علي أن تلك »الخلافة» كانت ضرورة لحماية الدين، وأن المسلمين لم يهنوا ويضعفوا إلا بسقوط تلك الخلافة، ويغفل هؤلاء - عمدا أو جهلا - ذلك الموقف المخزي علي سبيل المثال للعثمانيين في نجدة مسلمي الأندلس من تلك المذابح الدموية التي كانوا يتعرضون لها علي يد محاكم التفتيش، والتي تعد واحدة من أكبر حملات الاضطهاد الديني في التاريخ، والمراجع التاريخية تشير بوضوح إلي أن مسلمي الأندلس استغاثوا بالعثمانيين، فلم يجدوا سوي صمت مخزٍ، في حين كانت الجيوش العثمانية مشغولة بقتال مسلمين آخرين طمعا في التوسع وامتلاك المزيد من الأراضي التي »تفيض لبنا وعسلا»، وهو - لو شئنا الحقيقة - نفس منطق الحملات الصليبية وكل قوي الاحتلال التي عرفتها المنطقة.. فأين تلك النصرة للإسلام والمسلمين ؟! الخيانات لاتزال مستمرة ويدهش من يعانق سطور التاريخ، وتصطدم عيناه بالواقع الذي نعيشه، من حجم التشابه بين الماضي والحاضر، فما استطاع العثمانيون دخول الشرق العربي إلا بسلاح الخيانة، فانسحاب خاير بك بجيشه من معركة مرج دابق عام 1516 كانت وراء هزيمة المماليك، وكان ذلك الخائن أول حاكم للعثمانيين في مصر(!!)، وقد منحته العبقرية الشعبية للمصريين مكانته التي يستحقها بأن أطلقت عليه »خاين بك» وهو اللقب الذي اشتهر به في كل كتب التاريخ. وبينما كادت الأمور تتحول لصالح المصريين بفعل المقاومة الشرسة التي قادها طومان باي عقب خيانة العديد من أمراء المماليك وتخاذلهم في »الريدانية»، كان أمير المماليك الأخير علي موعد مع خيانة جديدة من جانب الرجل الذي اختبأ عنده، وسلمه للعثمانيين ليشنقوه ويعلقوا جثمانه علي أحد أبواب القاهرة، فالأوطان لا تسقط في أيدي الغزاة إلا بفعل الخيانات.. واليوم ما أكثر الخونة في بلاد العرب، خونة الفكر والضمير.. وما أكثر لصوص الأوطان!! وجوه في الذاكرة رأيته يوم خرج من السجن عقب ثورة 25 يناير2011، كان يحاول أن يقدم نفسه كبطل، المسكن المتواضع الذي كان يقيم به في أحد شوارع حي فيصل بالجيزة، يشير بوضوح إلي معاناة حقيقية يواجهها الرجل، تمضي الأحداث، وتندلع ثورة 30 يونيو 2013، ويختار الرجل قارب »الجماعة الإرهابية» وقبل أن تغرق في مصر هرب إلي قطر، فتحول إلي »شخصية مهمة» يتحرك بموكب من سيارات ال»لاند كروزر» إحداها لطاقم الحراسة المرافق.. تذكرت علي الفور كلماته عن الصبر وثمن النضال والتضحية.. وضحكت في صمت!!