أعتقد أن رئيس حكومة الثورة الدكتور عصام شرف يعرف جيدا هذا النداء التلقائي الذي ردده الشعب في ميدان التحرير فور سقوط رأس النظام البائد، وإحساس الجماهير أنها استردت حريتها وكرامتها.. بل أزعم أن الجماهير التي صكت أول نداءات الثورة بصورة تلقائية أيضا مثل »تغيير ..حرية ..عدالة اجتماعية«..ثم »كرامة..حرية ..عدالة اجتماعية«..كانت تريد التأكيد علي أن أكبر وأبشع خطايا وجرائم حسني مبارك في حق الشعب والوطن ، والتي يجب أن يُحاكم عليها الآن، ليست فقط إهانة المصريين وإذلالهم وتجويعهم ونهب أموالهم وتبديد ثرواتهم في الداخل ، ولكن أيضا تقزيم دور مصر إقليميا ودوليا وانتهاج سياسة خارجية »منبطحة« تدور في فلك أمريكا واسرائيل ..وترهن إرادة الامة المصرية العظيمة لإملاءات ورغبات الخارج..فقد كان واضحا لكل المصريين الاحرار أن حسني مبارك ، ومعظم الذين خدموا في حكوماته المتعاقبة ، لا يعرفون قدر مصر.. وإذا كان هناك مَن يقول إن الرئيس المخلوع لم يكن يقرأ ولم يُضبَط مرة وهو يتحدث عن كتاب قرأه في كل الخطابات »التاريخية« التي القاها..أي أنه كان يجهل تاريخ مصر التي علمت الدنيا »فجر الضمير« كما قال عالم المصريات الامريكي »هنري بريستيد« ، وهذا عذر أقبح من ذنب علي أي حال، فكيف نُعفي من المسئولية جميع المثقفين الذين عملوا معه والتقوا به ولم يجد منهم سوي النفاق الفج الذي يصل حد التأليه ووصفه بأنه أعظم حكام مصر قاطبة، باستثناء مثقف مصري حقيقي واحد هو الدكتور محمد السيد سعيد الذي واجه الديكتاتور »الجهول« وانتقد سياسته وزاد علي ذلك بتقديم ورقة بمشروع للإصلاح لم يكتف الطاغية الجاهل برفض تسلمها من يده وإنما قال له كلاما فظا وقبيحا بل قذرا يوجب محاكمته بتهمة السب والقذف . ومَن أسعده الحظ بمعرفة المرحوم الدكتور محمد السيد سعيد وأدبه الجم يدرك حجم الجريمة التي ارتكبت في حقه من رأس الدولة.. أهدر نظام حسني مبارك كرامة المواطن المصري وحقوقه في الداخل ففقد كرامته وحقوقه في الخارج..وأذكر علي سبيل المثال أنه عندما اعترض نشطاء حقوقيون علي تعذيب مواطنين مصريين علي يد الشرطة في الكويت ، خرج عليهم صحفي كويتي بلا ضمير ، لم يكتف بالتقاعس عن إدانة هذه الجريمة البشعة في بلاده ، ليقول »إذا كان المصريون يتعرضون للتعذيب في بلادهم فلماذا تلومون الشرطة الكويتية علي تعذيبهم«؟!!..ولعل معظم المصريين الذين سافروا الي الخارج سعيا للرزق أو طلبا للعلم لمسوا وعانوا كثيرا من تدهور مكانة مصر والمصريين ورأوا كيف تحولت السفارات المصرية ، وخاصة في دول الخليج، الي مكاتب للمصالح الشخصية واداء الخدمات فقط لكبار المسئولين والصحفيين والفرق الرياضية..أما المواطنون العاديون فلهم رب يحميهم!!..وبلغ تآكل دور مصر أن أحد وزراء خارجية نظام مبارك قال لمهندس مصري راح يشكو له ضياع حقوقه في إحدي دول الخليج إنه لا يستطيع حتي محادثة رئيس ديوان هذه الدولة هاتفيا!!..بل إن حسني مبارك الذي تعددت زيارته للخارج والي دول الخليج بالذات لم يتطوع مرة واحدة بإثارة مشكلات المصريين ومظالمهم ، وما أكثرها، في هذه الدول..وقال لي سفير سابق لمصر في إحدي الدول النفطية إن مبارك زار هذه الدولة أثناء فترة عمله نحو 20 مرة .. وأقسم أنه لم يحدث في أي من هذه المرات، ولو حتي علي سبيل الخطأ، أن تحدث الرئيس المخلوع عن أي امر يهم مصر والمصريين.. وهنا أمسك الرجل عن الكلام ولكني فهمتُ أن زيارات الرئيس المخلوع كانت لا تخرج عن مصالحه الخاصة ومصالح اسرته!!.. وعندما استجاب القدر لإرادة المصريين وتفجرت ثورتهم العظيمة..ووقف العالم علي أطراف اصابعه يشهد منبهرا ابناء النيل وهم يسطرون تاريخا جديدا لبلادهم أُم التاريخ وصانعته ، كان لا بد أن تصل الثورة الي السياسة الخارجية فجاء وزير محترم يعرف قدر مصر بين الامم وكان تصريحه الاهم بأن مصر ستقيم علاقات متوازنة مع جميع دول العالم بما في ذلك إيران.. وهنا انزعج كل أعداء مصر الذين يريدون مصر تابعة لأمريكا وتابعيها ولا يتمنون لها الكرامة والعزة واحتلال مكانتها المستحقة بين الامم..إذ يعرف هؤلاء الاعداء جيدا أن مصر عندما تتحدث عن نفسها وتستقل بقرارها ستوصد في وجوههم كل الابواب التي كانت تسمح لهم بدس أنوفهم في شئونها الداخلية وتطويع سياساتها الداخلية والخارجية بما يخدم مصالحهم..وكان لا بد أن يسارع عملاء النظام السابق ولوبي السفارات الخليجية في القاهرة لانتقاد التوجه الثوري الجديد للدبلوماسية المصرية برئاسة الدكتور نبيل العربي زاعمين أن التقارب المصري مع إيران سيضر بمصالحنا مع دول الخليج الشقيقة..ويبدو أنهم لا يعرفون، أو هم يعرفون بالقطع ولكنهم يصهينون، أن جميع دول الخليج تقيم علاقات كاملة وطبيعية مع ايران وأنه حتي الامارات التي تتهم طهران باحتلال ثلاث من جزرها في الخليج لا تقيم علاقات طبيعية مع طهران فحسب ، بل إنها الشريك التجاري الاول لإيران في العالم!!..والمؤكد أن هؤلاء واولئك لم يدركوا بعد أن مصر بعد 25 يناير هي مصر الحرة التي تقرر وتقول بملء إرادتها وعلي الجميع احترام قرارها ..أما حديث اللوبي الخليجي عن مصالحنا مع دول الخليج فهو حديث عن مصالح خاصة بهم وضيقة ..لقد تغيرت مصر بعد ثورة 25 يناير وتغيرت بالتالي نظرة العالم لمصر والمصريين وصار شعار الجميع في الداخل والخارج هو ذلك النداء الذي رددته حشود الجماهير بعد سقوط النظام وسياسات التبعية التي أدمنها »ارفع راسك فوق ..انت مصري«..