»أم الغلام».. مدينة صناعية حرفية بشارع الأزهر تبحث عن منقذ.. 6 سنوات عجاف عاشها حرفيو تلك المنطقة.. منهم من سقط في بئر الهاوية بسبب الظروف الاقتصادية.. وآخرون ما زالوا يتمسكون بتلابيب الأمل لعل الفرج قريب.. صناعات لها تاريخ اشتهرت بها مصر منذ القدم.. سائحون يأتون من انحاء العالم لشراء منتجات »ام الغلام» الأصلية.. وعرب لاينسون التجول في منطقة أم الغلام لشهرتها العريقة في مجال الصناعات اليدوية والتي تتنوع ما بين الحفر علي المعادن والصناعات الجلدية بمختلف انواعها وتطريز الملابس وصناعة السبح من خام حجر الفيروز الذي اشتهرت به سيناء.. لكن اليوم »ام الغلام» تصرخ بعد أن تركها شيوخ المهنة ومعهم »الصنايعية» وفروا إلي عمل آخر بعد ان ضرب الركود والاهمال صناعاتهم.... »الاخبار» قامت بجولة داخل منطقة »ام الغلام» لنقل صورة لما اصابها وناقشنا الخبراء حول سبل إنقاذها بدأت جولتنا في تلك المنطقة الصناعية بالممشي المواجه لمسجد الحسين والذي يتكون من 20 محلا لمختلف الصناعات اليدوية من صناعة الجلود والحفر علي النحاس وغيرهما من الصناعات التي تختنق بسبب ارتفاع المواد الخام الامر الذي دفع اصحابها إلي اغلاقها »بالضبة والمفتاح» وتسريح العمالة بها بسبب عدم القدرة علي الوفاء بالرواتب الشهرية من جهة وشراء المواد الخام من جهة اخري.. المحال التي اغلقت علت ابوابها ومداخلها اكوام التراب اما ما تبقي منها فقد افترش اصحابها الكراسي في انتظار فرج قريب او زبائن تقدر معني الصناعة اليدوية التي كانت في يوم من الايام مصدرا لدعم الاقتصاد.. وفي الناحية الأخري اغلقت بعض المطاعم التي كانت تعمل لخدمة »الصنايعية» الذين كانوا يتوافدون عليها من وقت لآخر طيلة اليوم.. خطوات معدودة قطعتها اقدامنا داخل ذلك الممشي نشم رائحة العراقة الممزوجة بإهمال تراكمت عوامله علي مدار 6 سنوات عجاف عجزت خلالها الحكومات المتعاقبة عن ان تحول ذلك الاهمال إلي طاقة نور وامل جديد لإنعاش الاقتصاد المصري »سنوات عجاف» التقت »الأخبار» مع عدد من اصحاب الورش والمحلات فيقول الحاج إبراهيم طلبة أقدم صانع فوانيس في الحي بأكمله انه بدأ عمله في تلك المنطقة منذ ما يقرب من 40 عاما عندما كان يأتي إلي تلك المنطقة مئات الآلاف بشكل يومي ليتسوقوا من منتجاتها الصناعية التي اشتهرت بها مصر. سياح أجانب وعرب وحتي المصريون.. وأضاف ان منطقة »أم الغلام» ظلت صرحا كبيرا للمنتجات الصناعية اليدوية و »خلية نحل» ليلا ونهارا حتي عام 2010 عند قيام ثورة يناير وما تلاها من أحداث.. وناشد الحاج ابراهيم الحكومة للاهتمام بتلك المنطقة الصناعية مرة اخري لانها اذا لاقت اهتماما من قبل الدولة ستتحول مرة اخري إلي صرح اقتصادي لامثيل له يدر دخلا كبيرا لمصر سواء من خلال السياحة او من خلال عمليات تصدير المنتجات الصناعية إلي الخارج مشيرا إلي اننا كنا نصدر الفوانيس المصنوعة يدويا إلي الدول العربية وعدد من الدولة الاجنبية المسلمة.. واختتم الحاج ابراهيم حديثه قائلا :اننا لدينا اسر ننفق عليها ومطالبين بتوفير لقمة العيش لهم حتي لا تتبدل حياتهم للأسوا. »مول أم الغلام» كانت جولتنا الثانية بمول ام الغلام صاحب الطوابق الثلاثة والذي انتشرت بين ارجائه مختلف الصناعات اليدوية ويتواجد به ما يقرب من 300 ورشة لمختلف الاعمال اليدوية يهددها شبح الاندثار والضياع بسبب اهمال الدولة.. ظل ذلك المول لفترة طويلة يدعم اقتصاد الدولة بكل اشكاله إلي ان حانت لحظة انهياره وسط دموع معلميه وصغار الصنايعية ولم يتبق داخل ذلك المول سوي 10 ورش فقط تصارع امواج الانهيار محاولة الصعود مرة أخري علي الافق من خلال معارض صغيرة يعرضون بها منتجاتهم التي تراصت لفترات طويلة داخل ورشهم تبحث عن مشتر او من يقدر تلك الصناعة اليدوية التي كان يتهافت عليها عشاق الذوق الرفيع من جميع دول العالم »فضة ونحاس» بين عشرات الورش المغلقة التي يكسو واجهتها التراب سمعنا صوتا يخرج من بينها انه صاحب ورشة تلميع فضة ونحاس،قال اسمي أنور لطفي عمري 62 عاما أعمل في هذه المهنة منذ اكثر من 15 سنة،هذه المهنة ورثتها أبا عن جد ولا أعرف غيرها. ويضيف :لم يعد تلميع الفضة كسابق عهده والمكان بأكمله تغير كثيرا وتبدل حاله إلي الاسوأ فقديما لم نكن نعرف طعم النوم بسبب ضغط الشغل من أجانب إلي مصريين اما الآن فقد تمر شهور ولا يطرق ورشتي زبونا واحدا. ويضيف: لم اكن اعتمد علي اي عمالة خارجية بل كان أبنائي هم من يقومون بمساعدتي ولكن نظرا للأوضاع الحالية وضغوط الحياة عليهم أضطروا إلي ترك هذه المهنة والبحث عن »لقمة العيش» في مهن أخري خاصة وأن مهنتنا لم تعد تحقق اي مكاسب، قثمن تنظيف القطعة يبدأ من ثلاثة جنيهات وينتهي عند 15 جنيها إذا كانت قطعة كبيرة.. ويقول: كلنا ندور في نفس الحلقة فسابقا عندماكانت الحالة الاقتصادية جيدة كانت نسب شراء الفضة بكل أشكالها من إكسسوارات منزلية وتحف كبيرة وبالتالي كان أغلب الزبائن تأتي من حين لآخر لتلميع وتنظيف هذه التحف اما الوضع الحالي فجعل الأسر تضع أولويات لها ليصبح شراء التحف والأنتيكات حسب ظروف كل فرد وبالتالي انعكس ذلك علي مهنتنا التي أخشي أن تندثر إذا استمر الوضع بهذا الشكل. »البوف العربي» وعلي مسافة قريبة وجدنا ورشة أخري بها ماكينة خياطة وأمتار قليلة من الجلود ملقاة علي أرضها.انها ورشة صناعة »البوف» يقول مالكها محمود القباني: لم يعد لهذه المهنة أي شهرة خاصة مع الحالة المزرية التي وصلت اليها ورش منطقة ام الغلام،فسابقا كنا نتباهي بمنطقتنا وكنا نورد لكثير من المحلات الكبري وكان اعتمادنا الاكبر علي السياحة خاصة وأن هذا المنتج يلقي إقبالا كبيرا لديهم لانه يرتبط معهم بالقعدة العربي أما حاليا فمعظم شغلي يخرج علي شكل طلبيات لزبائن مصريين. ويضيف: تمر شهور ولا اقوم بيع »بوف» واحد لدرجة انني استدنت بسبب عدم بيع المخزون الموجود عندي مما ادي إلي تراكم الديون علي.. وقال :عندما كانت المهنة مزدهرة كنت أقوم يوميا بإخراج 10 قطع وكان مكسبي من القطعة الواحدة 10 جنيهات أما الآن فمتر الجلد الصناعي الذي كان يباع ب12 جنيها أصبح ب35 جنيها وبسبب انعدام حركة البيع والشراء أصبح مكسبي من القطعة 3 جنيهات،الامر الذي اضطرني إلي تسريح العمالة التي كانت تساعدني من أجل تغطية نفقاتي خاصة وأنني في ظل هذه الظروف أقوم بتجهيز ابنتي. »ترزي ليبي» وعلي الجانب الآخر بنفس الطابق وجدنا أشهر ترزي بمنطقة ام الغلام قال: اسمي سعيد محمود مصطفي اعمل ترزي ليبيا متخصصا في صناعة العبايات والسراويل الليبي علي مستوي القاهرة لا يوجد احد في هذا التخصص غيري اما في المحافظات الأخري خاصة الاسكندرية فهناك الكثير ممن يعملون في الزي الليبي، ويضيف :عشقت المهنة بسبب ابي وكنت اجلس لأشاهده وهو يقوم بتطريز كل قطعة بيديه ومدي حبه وتفانيه لها رغم كونها عملية مرهقة إلا انه كان يجد متعته في مهنته الامر الذي جعلني اعشقها واتوارثها عنه.. وقال بأسي : تبدل الحال كثيرا عن الماضي فأغلب زبائني الحاليين هم من أتعامل معهم منذ فترة طويلة اما الزبائن الجدد فلا يوجد منهم احد بسبب تراجع السياحة لان معظم من كانوا يترددون علينا ليبيين ومن دولة تشاد والأجانب ممن كانوا يجذبهم التطريز اليدوي لهذه العبايات.. و يشير إلي انه يعمل 6 صنايعية واضطر حاليا إلي تقليل نسبة مكسبي حتي لا اضطر إلي الاستغناء عن احد منهم،مضيفا أن الخامات المستخدمة تضاعفت أسعارها بشكل كبير فروزمة الخيط التي تستخدم في التطريز اليدوي كنا نشتري منها 10 كيلو ب 800 جنيه أما الآن فأصبح سعرها 1500 جنيه.. وأكد ان أصحاب الورش يناضلون من أجل البقاء علي حرفتهم وصناعتهم التي لا يعرفون غيرها ويخشون عليها من الاختفاء من علي خريطة الصناعات ولكن جهدنا وحده لا يكفي فرؤية عشرات الورش مغلقة مشهد محزن وإن لم يتم انقاذ المتبقي، لن يكون هناك حرف يدوية باقية. »الفيروز المصري» »سأعتزل المهنة».. بهذه العبارة بدأ أحمد إسماعيل صاحب ورشة احجار كريمة كلامه ليقول: تخصصي هو صناعة الفيروز والذي يعد أفضل الانواع علي مستوي العالم ومنافسا للفيروز الأمريكي والإيراني،نقوم بشرائه من أرض الفيروز سيناء ومهنتنا قائمة علي التصدير أكثر من البيع المحلي خاصة وانه يخرج مع معدن المنجنيز ويقوم البدو هناك بتجميعه ونقوم بشرائه منهم حسب نوعه ويبدأ سعره من 50 جنيها وحتي 200 جنيه للكيلو وأشهر أماكن استخراجه أبو زنين. مشيرا إلي أن أصعب مرحلة في هذه المهنة والتي نعاني منها هي مرحلة التثبيت والشطف التي تتم في الولاياتالمتحدة وتتم للكيلوالواحد بسعر 800 دولار،مضيفا :انه في السنوات السابقة كانت التكلفة يتم تعويضها من المكاسب اما الآن فالخسائر تلاحقنا اينما ذهبنا خاصة وان الدولة وضعت قوانين لهذه الحرفة الامر الذي جعل المهنة تعاني بسبب هذه العراقيل وهو ما يجعلني افكر جديا في اعتزال المهنة.. ويضيف: لدي 7 ورش قمت بإغلاق ست منها ولم يتبق سوي واحدة فقط وقريبا سأقوم بإغلاقها فالحال لم يعد كما كان وأكثر ما يحزنني انني منذ اكثر من 20 عاما قمت بشراء هذه الورش بأضعاف ثمنها لأنني كنت اعلم أنني سأعوض هذا المبلغ من حرفتي فالمكان هنا كان يشبه خلية النحل لا تجد فيه موطئ قدم أما الآن فالحزن والظلام يخيم علي المكان.. ويقول :سابقا كانت الأم التي تجد ابنها غير راغب في التعليم تأتي الينا في أم الغلام وتطلب ان يتعلم ابنها حرفة ومع مرور الوقت اصبح هؤلاء العمال اصحاب ورش اما الآن فأغلبهم يهرب للعمل علي التوك توك وبالتالي لن يكون هناك اي حرفيين مستقبلا. »صناعة الجلود» 4 ورش والإيراد 100 جنيه ..بهذه الكلمات عرض عمرو محمد مأساته التي يعيشها بعد ان تدهورت مهنته وتوقفت أصابعه الذهبية عن صناعة الجلود واضطر إلي إغلاق 3 ورش وتشريد 20 عاملا تقريباً، ظلام الركود أصبح ساكناً في ورشته الوحيدة الباقية التي يحاول ان يضخ فيها الحياة من أجل الحصول علي لقمة العيش، جودة منتجاته اليدوية أصبحت لا تجد الزبون الذي يقدرها سواء من السياح او العرب مما اضطره إلي تخفيض أسعاره إلي ثمن بخس لكي يحصل علي أي إيراد يعينه علي الحياة. زقاق ضيق مواجه »لأم الغلام» يكاد لا تستطيع رفع ذراعيك اثناء السير فيه..في نهايته تنغمر في دوامة تأخذك إلي العصور الاسلامية القديمة رائحة المكان تفوح بعطور مسجد الحسين ومصر القديمة تحيط بك مبان شيدت بأحجار اثرية قديمة. .يتخلل ذلك الزقاق الضيق عدد من الورش لاصحاب الصناعات اليدوية القديمة. هذا محل قديم تراه عن بعد وجدنا لوحة اسلامية مكتوبا عليها آية قرانية فاقتربنا منها فوجدنا الحاج محمد صالح »القصبجي» يجلس اسفلها علي كرسي خشبي ويفترش امامه منسجا يدويا من الحديد والخشب تعلوه طاولة من القماش تسترها قماشة سوداء اللون تقترب من خام »القطيفة» يغرز به العديد من الخيوط بطرق مختلفة تشرح مراحل صناعة السيرما. يقول وعيناه تلمع بالفرحة ان قصته مع حرفة السيرما تعود إلي 28 عاما موضحا ان هناك فروقا كبيرة بين جودة المنتج اليدوي الذي تستغرق فيه أصغر لوحة حوالي يوم ونصف اليوم وبين الديجتال الذي يترك خلفه شوائب.. واضاف: ان صناعة السيرما تستلزم تجهيزات عديدة اولها اعداد منسج مكون من حاملي حديد يعلوه عودان من الخشب يرتبطان ب »سيخين» من الحديد مشدودا عليهما قماشة من خام ال »قطيفة» ويبدأ القصبجي بقص الآية او الرسالة التي ستكتب عليها من ورق كرتون لتكون الآية مكتوبة مجوفة بالكرتون ويعمل علي تثبيتها في قماشة ال»القطيفة» ويأخذ كمية من الخيوط القطنية لتكون حشوا داخليا بين الكرتون والخيط الخارجي سواء كان نوعه خشبيا او نحاسيا ويأخذ الإبرة المرفق بها الخيط النحاسي مرتديا في أحد صوابع يديه اليمني ما يشبه الخاتم الحديد وفي مقابله في اليد اليسري جزء آخر حديدي للاستعانة بهما في دفع الإبرة من الأعلي لأسفل ومن الأسفل لأعلي قائلا: »لا يفل الحديد إلا الحديد» غارقا في عمله مستمتعا به دون ان يكل او يمل وكأنه فنان يرسم لوحة فنية مستكملا حديثه بصوت حزين: المهنة بتضيع لان الشباب ليس لديهم القدرة علي الصبر والعمل وقتا كبيرا امام المنسج. وضع استراتيجية ومن جانبه أكد الدكتور عبد المنعم السيد مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية ضرورة وضع استراتيجية متكاملة لتطوير الصناعات الحرفية والتقليدية في مصر وقال :إن نقص الخامات من أهم المعوقات التي تعاني منها ورش الصناعات اليدوية اضافة إلي ارتفاع أسعار الآلات والمعدات اللازمة للتصنيع، خاصة الحديثة منها والتي تستخدم لتنفيذ التصميمات الجديدة.. وقال عبد المنعم : انه لابد ان تقوم الجهات المعنية بوضع حلول جريئة وغير تقليدية لإنهاء أزمة وجود ورش تعمل بدون تراخيص، ومساعدتها علي تقنين أوضاعها واصدار السجل التجاري الخاص بها، ووضع آليات لتعامل الحكومة مع تلك الورش لحين تقنين أوضاعها الفترة المقبلة.. مضيفا انه لابد من الاتصال بالجهات التمويلية لدعم الورش العاملة بالحرف اليدوية خاصة في مجال الأخشاب سواء فنيًا أو ماديًا، وذلك لتجهيز الورش للاشتراك في المعارض الدولية والمحلية، وتكون قادرة علي التصدير للأسواق الخارجية مع تطوير التصميمات لتتناسب مع الأذواق العالمية، وتدريب العاملين لتأهيلهم لتلك الخطوة. من جانبه اكد الدكتور وائل النحاس الخبير الاقتصادي أنه لابد ان يكون هناك خطة لتأهيل وتدريب العاملين بورش الحرف اليدوية حتي يكون للكوادر البشرية العاملة بتلك الورش قدرة علي استخدام الآلات والمعدات الحديثة مع وضع تصميمات جديدة.. مؤكدا علي ضرورة مخاطبة الجهات الحكومية لتقنين أوضاع الورش غير المرخصة وطالب بوضع خطط عاجلة لإنقاذ الصناعات اليدوية.