من اللافت للانتباه ما نشاهده هذه الأيام، ومنذ فترة ليست بالقليلة من محاولة واضحة للتشكيك في الشرعية، وهدم أهم الأطر التي تنظم مسيرة الحياة في الدولة وتحدد العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين المؤسسات وبعضها البعض. ويتواكب مع ذلك ويتزامن معه محاولة واضحة أخري لاختطاف نداءات التجديد والإصلاح ممن بدأوها وبشروا بها، وعملوا من أجلها،...، ثم إذ فجأة يهبط علينا فرد، بعد طول اغتراب عن مصر كلها، وعن العمل في الشارع السياسي بطوله وعرضه، ويدعي أنه صاحب الحق في التبشير بالاصلاح، ويزعم أنه وحده المطالب بذلك، والساعي إليه، ويطالب الناس أن تعطيه تفويضاً بذلك،...، ويدعي في ذات الوقت، أن الاخرون هم أصحاب الجمود والتخلف غير القادرين علي التطور أو التجديد أو التغيير. ويستوقفنا في ذلك ما نسمعه ونراه ونشاهده من ضجة زاعقة يصرخ بها هؤلاء الساعون للتشكيك في الشرعية، بغير حق، ولا سند، والمدعون بحقوق الملكية الفكرية في التغيير ووقف التجديد عليهم وحدهم، واحتكار التحديث دون البشر أجمعين، بغير دليل مادي أو معنوي ودون أي مسوغ عقلي، سوي صفاقة الادعاء بذلك، وتبجح الكلمة والمعني، ووقاحة التهجم علي كل المؤسسات والعمد الرئيسية في الدولة، والتطاول علي جميع الرموز في مصر مهما علا قدرها وتواصل عطاؤها. ويستلفت النظر في ذلك، أن تلك الضجة الزاعقة هنا وهناك تقوم بها مجموعات بعينها، مختلفة المشارب غير مؤتلفة التوجهات، لا يجمعها ولا يؤلف بينها رغم الاختلاف في الرأي والرؤية، سوي الرغبة في التشكيك، فيما هو قائم، وهدم ما هو موجود، وهز أو خلخلة ما هو ثابت وراسخ، متجاهلين بالغفلة أو بالقصد ما يمكن ان ينجم عن ذلك، لو حدث، من هز الاستقرار، وإشاعة الفوضي في الدولة والمجتمع، ومتجاهلين أيضا ما هو معلوم وواضح من توافق هذا المسعي مع الأهداف المشبوهة التي نادت بها جهات أجنبية معلومة وأطلقت عليها مسمي »الفوضي الخلاقة«. واللافت للانتباه أن نفس هذه المجموعة المتفقة علي التشكيك في شرعية ما هو قائم، والمدعية لملكيتها واحتكارها نداءات التجديد والتغيير الآن، كانت ومنذ فترة ليست بالبعيدة تشن حملة ضارية وشرسة علي كل من حمل راية التجديد، وسار في مسيرة الإصلاح والتحديث في مصر.
وكان ذلك واضحا جليا في قيام كل منهم طوال السنوات القليلة الماضية بالتهجم الشديد علي مسيرة الإصلاح التي انطلقت بالفعل في مصر منذ خمس سنوات، في خطاب الرئيس مبارك التاريخي في نهاية فبراير 5002، وما تلاه من فتح الباب واسعا أمام مسيرة الإصلاح علي جميع المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بدأت بالتعديلات الدستورية التي جعلت اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر بدلا من الاستفتاء الشعبي الذي كان معمولا به من قبل. ولقد كان ذلك الهجوم من جانبهم علي مسيرة الإصلاح وخطواته استمرارا لتهجمهم الشرس علي نداءات التجديد، والتحرك نحو التغيير، الذي انطلقت شرارته من الحزب الوطني تحت شعار الفكر الجديد قبل ذلك، ومنذ عام 2002. وخلال ذلك كله لم يناقش هؤلاء المشككون، والرافضون برامج الإصلاح مناقشة جادة، ولا هادفة، ولكنهم اكتفوا بالرفض والتهجم والتشكيك طوال السنوات الماضية، وقالوا في ذلك أقوالا غير معقولة، وادعوا إدعاءات غير منطقية، وغير مقبولة،..، وكلها تؤكد أن لدي كل منهم غصة في حلقه، ومرضا في قلبه، وقصورا في قدرته علي الرؤية الصحيحة والسليمة.
والآن،..، نشاهد ونري ذات الجماعة، تلتف حول الهابط علينا من الخارج، لأسباب في نفس كل منهم، ثم تنادي بالتجديد وبالتغيير، وتدعي أنها أول من صك نداءات التجديد والإصلاح، وأنها المطالبة به، والساعية إليه،..، ثم زادت علي ذلك بالادعاء أن جميع المسئولين في الدولة، وأيضا الحكومة القائمة، وكذلك حزب الاغلبية الذي انبثقت منه الحكومة، وخرجت من بين اعطافه، يمثلون عقبة ومانعا أمام الإصلاح والتجديد والتحديث في مصر. ويدعون أيضا، أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الإصلاح، وذلك التجديد، والتطوير، والتحديث، هي ازاحة هذا الحزب، وتنحية تلك الحكومة،...، وتوليهم هم مسئولية الإدارة، والوزارة، والحكم، والتنفيذ، ويطالبون جموع الناس أن تعطيهم تفويضاً بذلك.
ويتوافق مع إدعاءاتهم بأنهم أصحاب التغيير والمنادون بالتجديد، والمطالبون بالإصلاح، ويتواكب معها تركيزهم الشديد، واتباعهم لجميع السبل والأساليب المؤدية بالقول والفعل للتشكيك في الشرعية، والادعاء بعدم شرعية جميع ما هو قائم، وكل ما هو موجود، وترديد ذلك بصفة دائمة، ومستمرة، والادعاء الدائم والمستمر بأن القوانين القائمة غير شرعية، وبدأوا ذلك بالقوانين المنظمة للحياة السياسية، ثم زادوا علي ذلك الادعاء بأن كل القوانين تفتقد إلي الشرعية. وبعد ذلك ازداد غلوهم وتجرؤهم فأصبح كل نظام الدولة غير شرعي من وجهة نظرهم، ابتداء من المؤسسات، وانسحابا علي جميع المناصب، وصولا إلي الدستور، الذي بدأوا الهجوم عليه بالمطالبة بتعديل المادة 67 المنظمة لترشيح رئيس الجمهورية، ثم بعدها المطالبة بتعديل مادتين، وصولا إلي القول بضرورة تغيير الدستور كله، والمطالبة بدستور جديد. وبهذا أصبحنا امام مشهد غاية في الغرابة علي الساحة السياسية يطل علينا كل يوم، ويفرض وجوده الثقيل علينا بضجيجه الزاعق في كل لحظة، وكأننا في سيرك يتقافز فيه البعض هنا وهناك، ويلعب فيه البعض أكروبات ينقلبون فيها من حال إلي حال،...، فهذا ينادي بتعديل، وآخر ينادي باستبدال، وثالث ينادي بضرورة التغيير الكامل. وهكذا،..، راح كل واحد من هؤلاء ينتفض ويتراقص حول نيران ادعاءاته، وشرر ادعاءات الآخرين من بقية فريق الشطط، والتشكيك، والهدم، بغض النظر عما يمكن أن يحدث نتيجة تلك الأكروبات غير المأمونة، والآلاعيب الخطرة.
ونحن هنا لا نهاجم دعاة التجديد، ولا نثبط من همم المطالبين بالإصلاح، ولا نسفه من المناديين بالتغيير،...، ذلك شيء لا نهدف إليه بالقطع، ولا نسعي له علي الاطلاق، ولكننا نلفت النظر، والانتباه، إلي تلك الحالة القائمة، والظاهرة علي الساحة السياسية، بما فيها من تناقض في المواقف لهؤلاء الذين كان كل منهم بالأمس القريب ولأسباب خاصة به يعارض بكل عنف، ويرفض بكل شده نداءات التجديد الصادرة عن دعاة »الفكر الجديد«، في الحزب الوطني الديمقراطي، وما تلاها من إصلاحات بدأت بخطاب الرئيس في اواخر 5002، ثم انطلقت مع تعديل اختيار رئيس الجمهورية ليكون بالانتخاب الحر المباشر بدلا من الاستفتاء،...، ثم إذا بهم اليوم يدعون انهم دعاة التجديد، وانهم المطالبون بالاصلاح والتحديث. ونحن هنا أيضا لا نهاجم دعاة التغيير، ولا نسفه من دعواهم،...، بل علي العكس من ذلك تماما، نري أن من حق كل انسان في مصر، أو في غيرها من دول العالم، وشعوبه، ان يحلم بالتغيير، وأن يطالب به، وأن يسعي اليه،...، ونؤمن أن هذه هي طبيعة الحياة، وتلك هي سنتها التي لا يستطيع احد أن ينكرها، ويقف في طريقها، ولا يستطيع أحد أن يمنع ذلك، حتي ولو حاول. ونري أن تلك بديهية، يدركها جميع الناس، وكل البشر، والعقلاء منهم بالذات، والحكماء بينهم علي وجه الخصوص،...، وكل من تابع أو يتابع مسيرة التطور الإنساني عبر العصور، ومنذ بدأت الحياة علي الأرض، يدرك ان تلك حقيقة مؤكدة، ودائمة، ومستمرة، وأنها تمثل في جوهرها فلسفة الوجود، واستمرارية الحياة، وسنة تواصلها الممتد بين الماضي، والحاضر، والمستقبل.
ولكننا نقول بوضوح كامل، إنه رغم كل تلك الانقلابات الفكرية، والاكروبات السياسية، والآلاعيب الخطرة، والادعاءات المتنوعة والمتعددة، ورغم كل محاولات الإنكار التي يلجأ لها البعض، وما يروج له البعض الآخر، فإن كل ما نراه اليوم علي الساحة السياسية، من اتساع كبير، وهائل في مساحة حرية الرأي والتعبير سواء بالقول الزاعق في الفضائيات، أو بالكتابة الملتهبة والسوداء وبالغة التشاؤم في الصحف،..، ما كان من الممكن أن يحدث لولا أنه جاء ترجمة مباشرة، وتطورا تلقائيا، وطبيعيا، لمناخ الحرية الذي خلقته، ودعت إليه، وحرضت عليه موجة الإصلاح القوية التي فتح الرئيس مبارك أمامها الباب واسعا في نهاية عام 5002. هذه واحدة،...، أما الثانية، فنقول أيضا بصراحة ووضوح كاملين، إن كل منا يدرك أن كلمة التغيير ونداءاته لابد أن تكون تعبيرا حقيقيا عن وضوح في الرؤية يسعي إلي الافضل، والأكثر تقدما، وتطورا، وانها ليست مجرد كلمة يقصد بها القفز إلي المجهول، بلا وعي، أو تخطيط، أو بينة.
والآن، ...، أصبح من الواجب والضروري أن نقول بكل صراحة ووضوح، أن التغيير لابد أن يكون في الاطار الايجابي، وهو ما يعني ان يكون هادفا للاصلاح، ودافعا للامام، وليس راجعا للخلف، أو مرتدا للوراء،...، وان ذلك التغيير لابد أن يكون بناء علي أجندة مصرية وطنية وقومية خالصة، وليس له صلة من بعيد أو قريب بأي اجندة تخالف ذلك، سواء كانت تنفيذا لمخططات خارجية، أو بإيعاذ منها، وتلعب علي نفس الأوتار وتعزف نفس النغمات، وصولا إلي اشاعة مناخ من عدم الاستقرار يهييء الأجواء ويعد المسرح للفوضي غير الخلاقة.