لقد كان " التعليم والبحث العلمي" هما الشفرة التي صنعت بها الأمم نهضتها، ولابديل من محاولة جادة لتحقيق نقلة نوعية في مفاهيم وفلسفة التعليم وأهدافه التنموية وربطه باقتصاديات إنتاج وإدارة المعرفة واستراتيجياتها الحديثة. فلسفة التعليم أول شروط النهضة: لابد للنهضة من شروط واستحقاقات أولاها أن يتحول نظامنا التعليمي من تعليم ناقل ينزع للحفظ والتلقين إلي تعليم عاقل يستهدف تنمية المهارات والقدرة علي التفكير والتجريب وبناء المعارف والنمو الذهني وتحفيز المبادرات، تعليم ينحو بنا من ثقافة الإيداع إلي آفاق الإبداع والابتكار والاختراع، تعليم يرتبط بلغة العصر ومستحدثاتها وعوالمها وطرائقها ومقتضياتها، تعليم لاتقوم فلسفته علي الوفاء بحاجة سوق العمل، إذ هي فلسفة كارثية ورؤية ضيقة الأفق. إذ كيف نسلم بأن تكون متطلبات سوق العمل هي المحدد لشكل وطبيعة وفلسفة وأهداف ووظيفية التعليم؟. سوق العمل مهما اتسعت آفاقها أو تشعبت دروبها، لا تزال محدودة في مجتمع نام ودولة من العالم الثالث، بينما ينبغي ربط السياسات التعليمية وظيفياً بخطط تنموية طموحة في إطار مشروع أكبر للنهضة يتحول معها التعليم العالي والبحث العلمي إلي المحور الرئيس في علاقات الإنتاج، وتكون فيه السياسات التعليمية هي المتغير الأساس في معادلة التطوير والتحديث والتنمية، لا المتغير التابع لسوق العمل ومتطلباتها المحدودة والمتخلفة بطبيعتها وظروفها عن مثيلاتها في الدول الصناعية الكبري والمتقدمة.. وبشكل أو بآخر فإن عولمة الاقتصاد قد وضعت كافة الدول سواء الصناعية الكبري أوالنامية أمام خيارات صعبة، وكان أن استوعبت الدول أن البني والهياكل التقليدية للتعليم وبناء القدرات التكنولوجية مثل الجامعات ومراكز الأبحاث ليست قادرة وحدها علي هذا التحدي دون إستحداث بني مكملة وآليات قادرة علي الإبتكار innovation وإحتضان الأفكار ومواهب الإبداع، فبدأوا في تأثيث المدن التكنولوجية ووديان العلوم والتكنولوجيا Science Parks ومراكز التميز العلمي والحاضنات التكنولوجية Incubators وتجمعات صناعة المعرفة وحاضنات الأعمال. . إن التعليم العالي والبحث العلمي هما قاطرة التنمية والتحديث والنهضة والتي ينبغي ربطها لا بسوق العمل وإنما باقتصادات إنتاج وإدارة المعرفة، وبما يشمل توطين وتطوير التكنولوجيا وإحداث نقلة نوعية في الاقتصاد وتحديث الصناعة ورفع تنافسية المنتج المصري وتحويل المعادلة الحدية للإنتاج في المجتمع من موازنات رأس المال العيني: المصانع والماكينات والمنشآت وتكاليف خطوط الإنتاج وسوق العمل، إلي رأس المال الفكري أو "القوة العلمية الناعمة" أي الكوادر المؤهلة والاختراعات والإبداعات والتكنولوجيات الحديثة وبراءات الاختراع ووديان العلوم والتكنولوجيا والمدن الصناعية وجميع مخرجات ما بعد الحداثة، علينا وضع الخطط اللازمة لصنع المبدعين والمخترعين، وهي خطط معروفة ومدروسة وناجحة، وسبق تجريبها في كل من كوريا والصين واليابان وماليزيا، وغيرها من الدول المتقدمة التي يمكن الاستفادة من تجاربها وبرامجها ومنظوماتها التعليمية دون محاولة اختراع العجلة واجتراح سياسات التجريب والتغيير والتعديل. أما الوفاء بمتطلبات سوق العمل فهي واحدة من الخطط القصيرة المدي التي تضطلع بها مؤسسات وزارة التجارة والصناعة مثل مصلحة الكفاية الإنتاجية ومثل مجلس التدريب الصناعي في اتحاد الصناعات ومراكز التأهيل المهني والإنتاجي ومؤسسات التعليم الفني، وهي ليست خططاً بعيدة المدي لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي التي ينبغي أن يكون دورها أكبر من ذلك وأهم في وضع خطط بعيدة المدي للتنمية واقتصادات المعرفة، وبالتالي وضع البرامج والسياسات التعليمية للوفاء بشروط النهضة وليس العمل سمساراً للكوادر ومكاتب امخدمينب فيما يسمي بالتعليم التبادلي، وهو واحد من العناوين المضللة والسياسات الوهمية التي تكرس لتخلف التعليم وضياع المستهدف من ورائه. أزمة البحث العلمي في إدارته: لأن البحث العلمي هو المصدر الأساس لتوليد المعرفة التي أصبحت في الاقتصادات الجديدة هي كل مانشتريه ونبيعه ونستخدمه من وسائط تكنولوجية، فقد صارت عناصر رأس المال الفكري أو القوة العلمية الناعمة هي الأصول المعرفية أو قوة العقل التنظيمية، وهي عوامل الإنتاج الأكثر أهمية لاقتصاد المعرفة وهي المحرك للتقدم والتنمية. وحتي تزدهر هذه القوة الناعمة فهي تحتاج إلي استراتيجيات جديدة ونظم إدارية جديدة، إذ أزمة البحث العلمي لاتكمن في قدراته وكوادره، إنما أزمته في إدارته، والسياسات التي عملت علي استبعاد الكفاءات والمؤهلين واعتمدت نظاماً مركزياً في التحكم والسيطرة باختراع وظيفة "القائم بالأعمال" لضمان وجود قيادات شكلية للبحث العلمي يسهل قيادها وليس لها صلاحيات مما أدي لإدارة البحث العلمي بالفاكس من مكتب مساعد الوزير رئيس الأكاديمية، وحتي عندما أنشئ المجلس الأعلي للعلوم والتكنولوجيا لم يتضمن في عضويته أياً من رؤساء أو أساتذة المراكز البحثية، إذن كيف ترسم سياسات البحث العلمي في غيبة المسئولين الحقيقيين عنه؟ وكيف يكون علي المراكز البحثية تنفيذ سياسات نظرية لاترتبط بواقعها أو إمكاناتها؟ وعلي مدار قرابة الأربع سنوات لم يقم المجلس الموقر أو أياً من أعضائه بزيارة أي مركز بحثي ولم يدعي أحد لحضو إجتماعاته حتي كمراقبين، وكأنه مجلس سري لايحق للعلماء في مراكزنا البحثية حضور إجتماعاته، وكأنه أمر قصد به تقزيم وتحجيم القيادات الفعلية للبحث العلمي واستئثار السيد الوزير ومساعده بالحضور والعضوية، وهو أمر يشي بحجم التعالي والفردانية والاستبداد من جانب وزارة الدولة المسئولة عن البحث العلمي وتحكميتها في مقابل تهميش العلماء والباحثين الذين عانوا من سياسات الإقصاء والاستبعاد وعدم مساواتهم بزملائهم أساتذة الجامعات إلي حد أن أعدت الوزارة مشروع قانون ينفي عن أعضاء الهيئة البحثية كونهم أساتذة ويعتبرهم مجرد فنيين لايصح مساواتهم بأساتذة الجامعات في الراتب والمخصصات والبدلات، حتي استبعادهم من بدلات ومكافآت المشروع الوهمي "الجودة مقابل الأداء" الذين كانوا أول من قام بتنفيذه وأداء تبعاته والتزاماته. إن استبعاد الكفاءات لم يكن جريمة في حق البحث العلمي وحده، إنما هو جريمة في حق الوطن ومستقبل علمائه الذين طالبهم الوزير السابق "في محضر رسمي مسجل وبتوقيعه" بالهجرة والبحث عن مستوي مادي أفضل في الخارج وسخر من مفاهيمهم عن الوطنية التي تدفعهم للبقاء في وطن لايقدم لهم الظروف المناسبة لحياة كريمة، وتناسي أن سياساته هو ومساعده لا أحد غيرهما من تسبب في هذه الجريمة، أليس ذلك دليلاً علي أن أزمة البحث العلمي في إدارته. هذه قضايا وملاحظات عابرة، والأمر يحتاج إلي مقالات أخري.